“التصفية النفسية والعقلية لتحصيل التطابق المعرفي”

إيطاليا تلغراف

 

 

 

الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والحضارة
وجدة،المملكة المغربية

 

 

 

أولا : العلم النظري وضبط الخيالات

لسنا هنا بصدد تفصيل الحديث عن العقل وحقيقته ، أو الوجدان والذوق ومصدره أو مركزه . لأن هذا يدخل في إطار البحث عن جوهر النفس وقواها، ووظائفها. ولكن مقصودنا من طرح مسألة العقل وصوابه أو خطئه، وكذا موضوع القلب وتساميه عليهما إدراكا، واستعدادا للتقبل المعرفي الأدق ، والمباشر، هو التدليل على مدى اعتماد المفكرين المسلمين على الحكم العقلي، وسلوك مناهجه في المعرفة لتحصيل البرهان والوصول إلى الحقيقة تأسيسا على الموقف النفسي ومركزيته في التحصيل المعرفي العام ، والمعرفة النفسية بصفة خاصة .
كما أن الغرض من هذا الطرح أيضا هو تبين الضوابط التي تحول دون الوقوع في الأغلاط المعرفية سواء عن طريق الحس أو العقل أو هما معا. أو حتى عن طريق الوجدان والحدس ، الذي بدوره قد يكون مرتبطا بالعقل وأحكامه الأولية ارتباط استناد واعتماد للتخلص من الوهم النفسي والخيال غير الموضوعي أو الواقعي. وخاصة في التحصل على معرفة النفس كقاعدة لمعرفة الله .

إذ كما يقول للغزالي: ” فإذا لم تكن النفس قد ارتاضت بالعلوم الحقيقية البرهانية ، اكتسبت بالخاطر خيالات تظنها حقائق تنزل عليها. فكم من صوفي بقي في خيال واحد عشر سنين إلى أن تخلص عنه . ولو كان قد أتقن العلوم أولا، لتخلص منه على البديهة. فالاشتغال بتحصيل العلوم بمعرفة معيار العلم وتحصيل براهين العلوم المفصلة أولى، فإنه يسوق إلى المقصود سياقة موثوقا بها. كما يوثق بالاجتهاد في أن يحصل فقه النفس . وقد كان عليه السلام فقيه النفس من غير اجتهاد. ولكن لو أراد مريد أن ينال رتبته بمجرد الرياضة ، فقد توقع توقعا بعيدا، فيجب تحصيل نفس العلوم الحقيقية في النفس ، بطريقة البحث والنظر على غاية الإمكان ، وذلك بتحصيل ما حصله الأولون أولا” .
“ولهذا فالحركة الإنسانية احتاجت إلى حسن عناية وتكليف بتأييد وتسديد تعريف فإن الحركة الفكرية يدخلها حق وباطل ، فيجب أن يختار الحق دون الباطل . والحركات القولية يدخلها صدق وكذب ، فيجب أن يختار الخير دون الشر. ولن يتحقق هذا الاختيار إلا من تأييد وتسديد وتعريف ” .(أي العقل المؤيد والمسدد كما صاغه الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه “العمل الديني والتجديد في تطابق مع المصطلح الغزالي هذا!).

“فسعادة كل شيء ولذته وراحته في وصوله إلى كماله الخاص به . ثم تعلم الكمال الخاص بالإنسان هو إدراك حقيقة العقليات على ما هي عليه دون المتوهمات والحسيات التي يشاركه الحيوانات فيها. ثم تعلم أن النفس بالذات متعطشة إليه ، وبالفطرة مستعدة له . وإنما يصرفها عنها انشغالها بشهوات البدن وعوارضه مهما استولت عليه ، ومهما كسر الشهوة وقهرها، وخلص العقل عن رقها واستعبادها إياه ، وأكب بالتفكر والنظر على مطالعة ملكوت السماوات والأرض، بل على مطالعة نفسه وما خلق فيها من العجائب ، فقد وصل إلى كماله الخاص ، وقد سعد في الدنيا. إذ لا معنى للسعادة إلا نيل النفس كمالها الممكن. وإن كانت درجات الكمال لا تنحصر، ولكن لا يشعر بتلك اللذة ما دام في هذا العالم ممنوعا بالحس والتخيل وعوارض النفس ، كالذي عرض للمطعم الألذ وفي ذوقه خدر فيزول فيشعر باللذة المفرطة ” .
فكل ” مبدأ يصدر منه فعل فإما أن يكون له شعور بفعله أو لم يكن له شعور. فإما أن يكون فعله متحدا وليس له شعور ، فذلك المبدأ يسمى مبدأ كما في الأجسام الثقيلة من الهبوط وفي الخفيفة من الصعود.
وإن كان فعله مختلفا ليس له شعور، فهو النفس النباتي. فإن النبات يتحرك حركات مختلفة ، وإن كان له تعقل ، ومع تعقل اختيار في الفعل والترك هو النفس الإنساني…” .

ثانيا: المعرفة النفسية شعورية لا آلية

فمعرفة النفس شعورية قبل كل شيء، ومنهجها ذاتي بالدرجة الأولى، وغير محتاج في استكشافها من حيث هي ذات مباينة للجسد إلى آلة مادية أو مختبر حيواني أو كميائي. إذ القوة العقلية كما يذهب إليه ابن سينا:” لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص إنما يتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية ، لكان يجب أن لا تعقل ذاتها، وأن لا تعقل الآلة ولا أن تعقل أنها عقلت. فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس بينها وبين أنها عقلت آلة ، لكنها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعي آلتها، وأنها عقلت ، فإذاك إنما تعقل بذاتها لا بالآلة” .
ومثل هذا المعنى قد نجده على صورة قريبة في رأي ابن حزم، الذي يستبعد الزمن عن معرفة النفس بذاتها معرفة ضرورة واستشعار. وبقدر طفو هذا الاستشعار على النفس فقد يصير في بعض الأحيان خصوصية للبعض دون البعض الآخر ،على نفس مفهومه أيضا في مسألة تصفية الذهن والنفس لتحصيل البرهان على أكمل وجه. إذ يرى ابن سينا أيضا، أن التعلم سواء حصل من غير المتعلم أو حصل من نفس المتعلم متفاوت ، فإن من المتعلمين من يكون أقرب إلى التصور، لأن استعداده قبل الاستعداد الذي ذكرناه أقوى. فإن كان ذلك الإنسان مستعدا للاستكمال فيما بينه وبين نفسه سمي هذا الاستعداد القوي حدسيا. وهذا الاستعداد قد يشتد في بعض الناس حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كبير شيء وإلى تخريج وتعليم . بل يكون شديد الاستعداد بذلك كأن الاستعداد الثاني حاصل له ، بل كأنه يعرف كل شيء من نفسه . وهذه الدرجات أعلى درجات هذا الاستعداد، ويجب أن تسمى هذه الحال من العقل الهيولاني عقلا قدسيا،وهو من جنس العقل بالملكة إلا أنه رفيع جدا، ليس مما يشترك فيه الناس كلهم ، ولا يبعد أن تفيض هذه الأفعال المنسوبة إلى الروح القدسي لقوتها واستعلائها فيضانا على المتخيلة أيضا بأمثلة محسوسة ، ومسرعة من الكلام على النحو الذي سلفت الإشارة إليه . ومما يحقق هذا أن من المعلوم الظاهر أن من الأمور المعقولة التي يتوصل إلى اكتسابها، إنما تكتسب بحصول الحد الأوسط في القياس . وهذا الحد الأوسط قد يحصل ضربين من المحصول ، فتارة يحصل بالحدس . والحدس فعل للذهن يستنبط به بذاته الحد الأوسط، والذكاء قوة الحدس . وتارة يحصل بالتعليم ، ومبادئ التعليم الحدس . فإن الأشياء تنتهي لا محالة إلى حدوس ، استنبطها أرباب تلك الحدوس . ثم أدوها إلى المتعلمين .
فجائز أن يقع للإنسان بنفسه الحدس ، وأن ينعقد في ذهنه القياس بلا معلم . وهذا مما يتفاوت بالكم والكيف . أما في الكم فلأن بعض الناس يؤكد أكثر عدد حدس للحدود الوسطى. وأما في الكيف فلأن بعض الناس يكون أسرع زمان الحدس ” .
هذا الإدراك الحدسي ،كما يسميه ابن سينا، سنجد معنى قريبا منه جدا عند الغزالي. و لربما يكون قد اقتبسه عنه ، وأن ابن سينا أخذه عن الصوفية . كما قد يذهب البعض إلى اعتبار ابن سينا في فلسفته ، وخاصة النفسية – صوفيا! على مستوى التعبير في أغلب تقدير .
فقد يوجد تطابق فكري نفسي كبير بين الرجلين في الموضوع ، علما بأن ابن سينا يعتبر من بين أهم البحاث النظريين والتجريبيين في المجال النفسي،وخاصة في ميدان التطبيب كما هو مشهور عنه .

فعن المعنى المتطابق بينه وبين الغزالي نجد هذا الأخير يقول :”ونسبة العقل الفعال إلى نفوسنا نسبة الشمس إلى أبصارنا. فكما أن الشمس تبصر بذاتها بالفعل ، ويبصر بنورها ما ليس مبصرا بالفعل ، كذلك حال هذا العقل عند نفوسنا. فإن القوة العقلية إذا اطلعت على جزئيات الخيال ، وأشرق عليها نور العقل الفعال ، استحالت مجردة عن المادة وعلائقها، وانطبعت في النفس الناطقة لا على نفسها، تنتقل من التخيل إلى العقل منا، ولا على أن المعنى المغمور في العلائق ، وهو في نفسه واعتباره مجرد يعقل مثل نفسه ، بل على معنى أن مطالعتها تعد النفس لأن يفيض عليها المجرد من العقل الفعال . فإن الأفكار والتأملات حركات معدة للنفس نحو قبول الفيض . كما أن الحدود الوسطى معدة بنحو أشد تأكيدا لقبول النتيجة . وإن كان الأول على سبيل والثاني على سبيل . فتكون النفس الناطقة إذا وقعت لها نسبة ما إلى هذه الصورة ، يتوسط إشراق العقل الفعال، حدث فيها شيء من جنسها من وجه ، وليس من جنسها. كما أنه إذا وقع الضوء على الملونات فعل في البصر منها أثر ليس على جملتها من كل وجه” .
ولهذا، فمبدأ المعرفة الراسخة ، من خلال المنهج الصوفي سيتأسس على الوجود النفسي. وهو ما عبر عنه ابن خلدون بأنها من قبيل الوجدانيات . ثم إن بداياتها مؤشر على حصول ذلك الصفاء الذي تمثله المرآة المشار إليها في نصه ، كما سبق وعرضنا له .

وهذا المثال مقتبس من عدة نصوص وتمثيلات صوفية لا محالة . وعن هذه البدايات يقول أبو حامد الغزالي: ” اعلم أن من انكشف له شيء، ولو الشيء اليسير، بطريق الوقوع في القلب من حيث لا يدري، فقد صار عارفا بصحة الطريق . ومن لم يدرك ذلك من نفسه قط ، فينبغي أن يؤمن به . فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدا . ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات ” .
وكميزان ضابط كلي وجزئي للإدراك العقلي العادي، والإدراك القلبي الوجداني، الذوقي والكشفي، فقد يتفق جل المفكرين المسلمين على إخضاع هذه العلوم والمعارف إلى العلم الشرعي ،المحدد الأول والأخير لمصداقية المعرفة ومناسبتها للحقيقة . فنجد الفقهاء والمتكلمين والصوفية وغيرهم ، يرددون شعارا واحدا، وإن اختلفت صيغة وأساليب التعبير عنه . كما يقول ابن عربي: “كل علم من طريق الكشف والإلقاء واللقاء والكناية بحقيقة تخالف شريعة متواترة لا يعول عليه . ويكون ذلك الإلقاء أو اللقاء أو الكناية معلولا غير صحيح، إلا الكشف الصوري، فإنه صحيح . ووقع الخطأ في تأويل المكاشف مما أريدت له تلك الصورة التي ظهر له فيها هذا العلم على زعمه .كل علم حقيقة لا حكم للشريعة فيها بالرد فهو صحيح. وإلا فلا يعول عليه” .يتبع…

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...