الدكتور فؤاد هراجة
كاتب وباحث في الفلسفة السياسية والأخلاق
في مسار التربية ومسيرة بناء الأجيال، لا غنى لنا عن وجود القدوة الحسنة والمثل الأعلى الذي يستلهم منه الناس إرادة السلوك إلى الحق، وكيفية السير على طريق الحق، ثم العزيمة للثبات على الحق. وعادة عندما يثار هذا النقاش عند عموم المسلمين يتم استدعاء نموذج الصحابة ونموذج التابعين كمثل أعلى يُحتذى به، وهو أمر لا ريب فيه مطلوب ومحمود. لكن، مع كل ما تزخر به هذه النماذج التاريخية من عظمة وإلهام، فإننا في أمس الحاجة إلى نموذج معاصر، ينبع من واقعنا ويكون ابن زماننا. نموذج يقتسم معنا نفس الظروف والملابسات، ويشاركنا ذات الضعف المادي وقلة اليد، بل وربما تشاء له الأقدار الإلهية أن يكون أكثر حصارا وأقل إمكانيات من كل الجوانب، وومع ذلك تجد هذا النموذج الإيماني المعاصر يحقق نتائج تقترب أو تفوق تلك التي حققها نموذج الصحابة ونموذج التابعين.
نقول هذا لأن معظم المسلمين دأبوا على القول بأن الصحابة الذين جايلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين الذين جايلوا الصحابة، توفرت لهم ببئة الصلاح والتقوى والإيمان التي رفعتهم إلى مقام الشخصية الإحسانية الجهادية، وأخذوا يتذرعون في كثير من الأحيان بهذا المعطى لتبرير تقصيرهم في جنب أنفسهم وفي جنب أمتهم. والأدهى من ذلك كله أن شريحة واسعة من المسلمين ظلت تعتقد يقينا أن نموذج القرن الأول عَصِيٌّ على التكرار، وأن من يقول بإمكانية ظهور جيل يساوي جيل الصحابة في عطائهم وثباتهم وجهادهم وإخلاصهم (وليس في سابقتهم) في نظر هؤلاء مخبول عقلا أو طاعن في مقام من جايلوا قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحقيقة أن أصحاب هذا المذهب يناقضون صريح القرآن في قوله تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وَقِيلَ إن الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، هُمُ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فسياق الآية واضح ولا يحتاج إلى أدنى تأويل، إذ يكفي أن يتحقق شرط الاتباع بإحسان في العبادة، وبإتقان في اتخاذ الأسباب المادية المستطاعة، حتى تصبح صناعة نموذج معاصر في مقام الصحابة أمرا ممكنا.
هنا يبرز نموذج المقاو.مة خاصة ونموذج الحاضنة الشعبية عامة في غ.ز.ة كأحد أعظم النماذج الحية في عصرنا الحاضر؛ هذا النموذج الذي أصبح أكثر إلهامًا وتأثيرًا ليس فقط للمسلمين بل للناس أجمعين؛ لأنه أكد وما يزال يؤكد أن القوة الحقيقية لا تكمن في كثرة العتاد، ولا في مدد الحلفاء، وإنما القوة تكمن في العنصر البشري الذي تتجسد فيه قوة الإرادة ورسوخ الإيمان، مهما ساءت الظروف وقَلَّتْ الإمكانيات.
على ذلك لم يعد الحديث عن الإيمان والجهاد، وعن البذل والثبات، وعن الصبر والشكر، وعن الرضا والتسليم، وعن اليقين بنصر الله رغم شدة الابتلاء، وعن الاستماتة في الدفاع عن الأرض رغم الخذلان، مجرد خيال أو سرديات أدبية، وإنما هو واقع معيش ومحسوس ومدهش ومذهل. ففي كل يوم من أيام الله في معركة طوفان الأقصى، كان يتخلَّق أمامنا رمز جديد وقدوة حية، بدءًا من قائدي المعركة إسما.عيل هنية ويح.يى الس.نو.ار، ومرورًا بكل نساء وأطفال ورجال غ.ز.ة، وليس آخرهم د. الحُسام أبو صفية، الذي ضرب في الثبات مثلًا عظيمًا، حتى قيل فيه: أثبت من أبي صفية!
إن هذه النماذج لا تقف عند حدود الإلهام الذي يبعث الأمة من مرقدها، بل تتجاوزه لتجعل أهل غزة شهداء على الناس في الدنيا قبل الآخرة. لقد جسد أهل غزة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فنصحه فقتله» يبرز هذا الحديث أن بذل النفس من أجل النصرة ورفع الظلم مع رجاء الحياة ليس كبذل النفس مع عدم وجود رجاء في الحياة، لذلك عُدَّ الجهاد في فلس.طين عامة وغ.ز.ة خاصة من أعظم الجهاد؛ فكلمة الحق عند السلطان الجائر أفضل الجهاد؛ إذ إن صاحبها يقدِّمها وهو يائس من النجاة. وكما أن كلمة الحق عند السلطان الجائر قد تكون في سياق فردي، فقد تكون في سياق جماعي وهو ما جسدته المقاو.مة وحاضنتها عندما قامت في وجه سلطان الاحتلال الصهيو.ني فنصحته بسلاحها أن يرفع عنها الحصار ويغرب عن أرضها وهي تعلم بطشه وما يمكن أن يصدر عنه من تعميم القتل، ناهيك أنها كانت يائسة من نصرة القريب بل متأكدة من خذلانه، ومتيقنة أن هذا الخذلان لن يضرها. لقد كشفت غ.ز.ة عن رجولة جماعية قامت في يوم سلطان عالمي جائر، ما أكسبها مقام الشهادة والسيادة معا، وما منحها الجمع بين صفات الصديقية والشهادة والصلاح التي وردت في قوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا»، وقَلَّمَا تجتمع هذه الصفات في شخص واحد بله أن تجتمع في جماعة من الناس.
لقد أضحت غ.ز.ة بأهلها ومقاو.متها حجة على المسلمين وعلى العالمين، ونموذجا إيمانيا وجهاديا وإحسانيا وأخلاقيا…، وغذت مدرسة في الصبر والعزيمة والإرادة واليقين، ومرجعا عمليا في القيم، حيث جسدت الأخلاق في أصعب الظروف وأحلك الأوقات، واستطاعت أن تُغلِّبَ مبادئ الإسلام السمحة على غرائز الإنسان المطبوعة بالانتقام، والمجبولة على الرد بالمثل، فأعطت أروع وأجمل صور الآدمية في تعاملها مع أسرى العدو الذي قتل البشر ودمر الحجر، وحرق الشجر ولم يبق ولم يذر، ومع ذلك حرصت المقاو.مة المحاصَرة من قوى العالم على سلامة وصحة أسراها حتى خرجوا في أحسن حال، إذ منهم من إهتدى بفضل أطباء غ.ز.ة إلى دواء مرضه بعد معاناة سنوات طوال.
وخلاصة القول، إن الله تعالى بعث مقاو.مة غ.ز.ة وأهلها ليجددوا لهذه الأمة دينها لا بالخطابة والمواعظ، وإنما بدماء الشهداء الزكية، تجديد كان هذه المرة ميدانيا وعمليا، يشمل كل الدين في بناء الفرد المؤمن الشاهد بالقسط، وبناء الجماعة المجاهدة الحاملة الرحمة والساعية لاستئناف مشروع الأمة الحضاري الذي يبشر كل الإنسانية بالعمران الأخوي المنشود، ويدعوها إلى كلمة سواء أن هلموا لتقويض راية الظلم وإعلاء راية العدل، لتحقيق وظيفة للاستخلاف الجماعي التي كَرَّمنا الله من أجل القيام بها. ولغ.ز.ة منا كل الإجلال والإكبار والتعظيم، ولها علينا دَيْنٌ أن تجعلها بوصلة السلوك الإحساني الجهادي.