عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم بايطاليا
في صباح ربيعي مشرق، أشرقت شمس فصل الربيع الجميلة على ساحة باركو دورا في مدينة طورينو، التي تحولت إلى لوحة إيمانية نابضة بالحياة، حيث اجتمع أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة لأداء صلاة عيد الفطر. كان المشهد أشبه بحلم جميل يتكرر كل عام، ويتسع صداه مع مرور الزمن، في مدينة جعلت من التنوع قيمة، ومن التعايش أسلوب حياة.
للسنة الحادية عشرة، تحتضن طورينو هذا الحدث الكبير، لكن هذه المرة كان له طابع استثنائي، ليس فقط بسبب الأعداد القياسية للحاضرين، بل لأن هذه اللحظة حملت معاني أعمق في عالم تتزايد فيه الخطابات الإقصائية في أماكن أخرى. مع بزوغ الفجر، ارتدت العائلات أجمل ما لديها، وخرجت تحمل معها فرحة اللقاء، ودعوات الأمهات، وضحكات الأطفال، ونظرات الجيل الثاني الذي يكتب قصته بلغة مزدوجة، ممزوجة بالانتماء والأمل.
على المنصة، وقف الإمام السيد مصطفى يخاطب القلوب قبل الآذان، داعيًا إلى الشكر والتأمل والتضامن. ذكر بأن العيد ليس مجرد لحظة فرح، بل فرصة للتأمل في أحوال الأمة، ومدّ يد العون لمن أنهكهم الظلم في فلسطين وسائر أنحاء العالم. قال في خطبته: “لن يكتمل عيدنا إلا إذا عملنا بما علمنا ديننا من التضامن مع المظلومين، والسعي لنشر الخير والعدل.” ولم ينسَ توجيه الشكر لسلطات المدينة التي وفرت كل التسهيلات لضمان إقامة هذه المناسبة الروحانية في أجواء آمنة ومشرفة.
في الصفوف الأمامية، حضر عمدة طورينو، ستيفانو لو روسو، وألقى كلمة دافئة امتزجت فيها السياسة بالإنسانية، مؤكدًا أن مدينته تقوم على احتضان الجميع، وتنمو بتنوع سكانها، وتزدهر حين تتحول الاختلافات إلى مصدر قوة وتكامل. كما شهدت المناسبة حضور ممثلين عن الفاتيكان والأسقفية، إلى جانب مسؤولين من قطاعات الأمن والإدارة، في مشهد يعكس التزام المدينة بجعل الدين جسراً للتواصل، لا حاجزًا للعزل.
وبين الحشود، كانت هناك وجوه شابة نابضة بالحياة والانتماء، وصفت العيد بأنه لحظة تعيد فيها الجالية المسلمة تعريف هويتها، وتربط حاضرها بجذورها. إحدى المشاركات قالت: “العيد بالنسبة لنا يشبه أعياد الميلاد عند المسيحيين، حيث تجتمع العائلات، وتتجدد الأواصر، وتُشحن القلوب بالمحبة.”
لم يكن هذا الحدث ليتم بهذه الروعة دون جهود جبارة بذلتها تنسيقية مساجد طورينو، وعلى رأسها مسجد طيبة، حيث أظهر المنظمون احترافية عالية في التنسيق وتوفير الأجواء الملائمة لأداء الصلاة بخشوع وأمان. ولم تغب الصحافة عن المشهد، فقد غطّت جريدة “إيطاليا تلغراف” الحدث باهتمام، كما أجرت مقابلة مع عمدة المدينة قبيل العيد، تعزيزًا لصورة الجالية المسلمة كعنصر فاعل وإيجابي في المجتمع الإيطالي.
طورينو، التي لطالما عُرفت بعراقتها في الشوكولا والسينما وصناعة السيارات، أصبحت اليوم رمزًا للانفتاح والتعددية وحسن الاندماج. لم تعد تسأل القادم إليها من أين جاء، بل ماذا يحمل في قلبه، وحين يكون الجواب هو السلام، تفتح له شوارعها وساحاتها وأحضانها.
كل عام وطورينو بخير، وكل عام والمسلمون بخير، ما دامت القلوب تصلي معًا، والمدن تحتفي بالاختلاف كغنى، لا كتهديد.