نصيحة العلماء للحكام بين السر والعلانية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

الدكتور أحمد الريسوني

 

 

 

ما زال الدفاع مستميتا عند بعض شيوخ العصر، حول تقديم النصيحة لولي الأمر، وأنها يجب أن تكون سرا بينك وبينه، وأن الجهر بها فتنة ورياء وسوء أدب…
وما زال دعاة “النصيحة السرية” يعكفون على صورة نمطية واحدة، ساكنة لا تتغير ولا تتحرك، يحبسون عندها أنفسهم وأنفاسهم، وهي الواردة في حديث ضعيف يقول: “من أراد أن ينصح لسلطان بأمر، فلا يُـبدِ له علانية، ولكن ليأخذْ بيده فيخلو به”.
وبناء على هذه الرواية وعلى فهمهم لها، فليس على العلماء أو غيرهم من المسلمين، إذا كان عندهم ما يجب أن يقال لولي الأمر، إلا أن يزوروه في بيته، ويكلموه على انفراد، أو أن ينتظروا فرصة اللقاء به: في المسجد، أو في السوق، أو في المطار، لكي يأخذ أحدُهم بيده ويخلو به وينصحه…! فمَن تأتَّى له ذلك فقد أدى الذي عليه، ومن لم يتأت له ذلك، فقد كفى الله المؤمنين القتال!

علاقة العلماء بالأمراء في الواقع المعاصر
الحديث عن لعلاقات واللقاءات المباشرة بين أشخاص العلماء والفقهاء، وأشخاص السلاطين والأمراء، أصبح اليوم تقريبا غير ذي موضوع..
فالسائد اليوم – وإن لم يكن وليدَ اليوم – هو علاقة أشخاص بمؤسسات ومناصب، أو علاقة مؤسسات بمؤسسات ومناصب بمناصب، بعض النظر عن الأشخاص. فقد تكون العلاقة الشخصية منعدمة أو شبه منعدمة، ولكن العلاقة مع المؤسسات، أو بين المؤسسات، أو عبر المؤسسات، تكون على أشدها وفي أقصى درجاتها. فوليُّ الأمر، أو الأمير، أصبح اليوم يعبر عنه بالدولة، أو الحكومة، أو الحزب الحاكم، ويتجسد في شبكة من مؤسسات الدولة وأجهزتها، المركزيةِ والمحلية، وهي بالمئات أو بالآلاف. ويتجسد وليُّ الأمر كذلك في مناصب عديدةٍ ذاتَ صلاحيات مختلفة. والمنصب تجد فيه اليوم فلانا، وغدا تجد فيه فلانا آخر. ولكن المنصب هو المنصب. فالعالِـم – وغيره – إنما يتعامل اليوم مع هذا الواقع؛ يتعامل مع دولة ممثلة في “نظام حاكم”، وفي مؤسسة حكومية، وفي سياسات وقوانين وبرامج، ومجسدة في منصب وزير، أو مستشار، أو مدير، أو رئيس، أو محافظ، أو عميدـ، أو ضابط…
اليوم، حين نتساءل ونتباحث ونتناقش، في مسألة العلاقة بين العالم والحاكم، يجب أن نستحضر هذا الواقع الجديد، لا أن نستحضر علاقات وروابط ثنائية للشيخ الفلاني بالأمير الفلاني، أو علاقةً لصاحب فضيلة أو سماحة، مع صاحب فخامة أو جلالة، ولا علاقةَ السلطان الفلاني بأرباب المحابر والعمائم. فهذه الأنماط أصبحت نادرة ومتوارية. لا نجد اليوم حاكما يزور عالما، أو يدعوه إليه، ثم يقول له: حدثني، أو عِظني، أو كيف تراني؟ وكيف ترى أعواني؟ ولا نجد أمراء أو سلاطين يفتحون أبواب قصورهم للعلماء والمفكرين، ويدعونهم للمناظرة العلمية، أو للمشاورة السياسية، أو لطلب فتاوى فقهية. نعم قد يدعونهم اليوم لأغراض دعائية أمام الكاميرات ولبضع لحظات، وحتى هذا قلما يفعلونه. ومنهم من لا يفعله أبدا.
وقبل سنوات حدثني أحد العلماء الفضلاء أن هيئة كبار علمائهم، طلبت لقاء مع رئيس الدولة منذ توليه منصبه، وظلت تجدد طلبها وتنتظر، ولم يستجب لهم إلى أن مات. فهذا عن “كبار العلماء”، وعن هيأتهم الرسمية، فكيف بغير كبارهم؟ وكيف بأفرادهم؟ ومع ذلك نجد في هذا البلد نفسه مَن ألف كتابا حافلا صاخبا سماه (قطع المراء في حكم الدخول على الأمراء)، حشد فيه كل ما أمكنه جمعُه من نصوص وأقاويل واستنباطات وردود، ليثبت بذلك كله جواز الدخول على الأمراء…

الدخول على السلاطين والأمراء، أصبح اليوم دخولا إلى مؤسسات الدولة وتوابعها، وليس دخولا على أشخاص الأمراء، وأصبح حديثا مع الدولة أو عنها في وسائل الإعلام والنشر. والعلاقة اليوم هي علاقة مع الدولة ومؤسساتها وسياساتها ومشاريعها. والنقد والنصيحة اليوم لا يتوجهان بالضرورة إلى عين السلطان والأمير، بل يتوجهان إلى كيانات اعتبارية ومؤسسات جماعية وأشخاص غير معينين. وأداءُ واجب النقد والنصح والتعبير والبيان، أصبح له ألف طريق وطريق. وأكثرها لا يتطلب ذلك “الدخول” المتنازع فيه، لما له من مخاطر ومحاذير.
وفي ظل هذا التغير والتنوع، يبقى الثابت في حق العالم، هو أن يكون حاضرا غير غائب ولا مغيَّب، وأن يكون متبوعا وفاعلا مرفوعا، لا مجرورا ولا حرفَ جر. وأن يكون ناصحا أمينا لولاة الأمور ومؤسساتهم ومشاريعهم، سواء كان قريبا منهم أو بعيدا عنهم أو شريكا لهم، وسواء كان معهم في حالة وئام أو حالة خصام. واجبه: أن يبين ولا يكتم، وأن يوضح ولا يُـبهم، وألا يحرف ولا ينحرف، بل يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم. فإن فعل ذبك فقد أدى أعظم واجبات العلماء، ونجا من مخاطر “إمارة السفهاء”.

إيطاليا تلغراف

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...