مرضى السلطة والتسلّط

إيطاليا تلغراف

 

 

 

مسعود الرمضاني
الرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

 

 

يقول الباحث في علم النفس الاجتماعي، جان بيار دولي، إنّ “أشخاصاً عديدين يبدون طيّبين ومُسالمين ومحترمين في الحياة العادية إلى حين وصولهم إلى السلطة. حينها تظهر كلّ عيوبهم، ليس لأن السلطة تغيّرهم، بل لأنها تعطيهم هامشاً هائلاً ومساحةً لا عقلانيةً للكشف عن كلّ أمراضهم النفسية”. روايات جنون الحكّام وأمزجتهم المعقّدة وتقلّباتهم السريعة وساديّتهم المخيفة وأحكامهم الغريبة وقع تداولها منذ أقدم العصور، فقد تناقل المؤرّخون والرواة أسماءً مرجعيةً في مزج الطغيان بالجنون، مثل نيرون وكاليغولا وريتشارد الثالث. وفي القرن العشرين، سطعت أسماء مثل هتلر وموسوليني وعيدي أمين وبوكاسا وغيرهم. ومنذ أربعينيّات القرن الماضي، بدأ علم النفس وعلم النفس الاجتماعي يشتغلان على هؤلاء الذين حوّلوا بلدانهم مصحّاتٍ عقليةً يحكمها المزاج والغضب والنزوات الشخصية والقرارات العجيبة، من دون حسيب ولا رقيب، وبدأ سؤال يُطرح دائماً: هل السلطة، بما تتيحه أحياناً من هامشٍ للسيطرة، هي السبب في أمراض بعض الحكّام النفسية ونرجسيّتهم المفرطة، وفقدانهم كلّ كابح عقلانيّ، أم أنّها مجرّد ماسح ضوئي كشف عاهاتٍ متخفّية؟

يُنسب إلى الرئيس الفرنسي السابق، فرنسوا ميتران، قوله إنّ “السلطة مُخدِّر يقود مَن يتذوّقه إلى الجنون”، ومعناه أنّ السلطة تغيّر سلوك الناس الذين كانوا في ما مضى طبيعيّين وعاديّين، بمن فيهم الذين أوصلتهم الحكمة ورجاحة العقل، وقادهم حسن البصيرة إلى الحكم، إلى درجة تجعلهم يتصرّفون بطريقة غير عقلانية، ويتحوّلون مُدمِني سلطة، ويقودهم غرورهم إلى فقدان الاعتدال، الذي هو “العنصر الأساس في ممارسة السلطة”، حسب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وربّما كذلك ينقطعون نهائياً عن الواقع، ويفقدون التواصل مع الناس، ليعيشوا داخل بوتقة عالمهم الخاص.

وحتّى في الديمقراطيات، تتحوّل هالة الحكم وسلطانه وصولجانه فترةَ انتشاءٍ يصعب التخلّي عنها، لما يتلوها من نسيان وعزلة وفراغ عند نهاية المدّة، ممّا يحوّل الحاكم “مشروعَ مستبدّ” يسعى بالوسائل المتاحة كلّها إلى البقاء في السلطة، لولا ردع المؤسّسات التعديليّة المستقلّة وسلطة القضاء ووعي الشعوب بضرورة التغيير والتداول. يقول الباحث الفرنسي في علم الاجتماع باتريك ويل، إنّ “من السهل قراءة الطغاة، أمّا القادة الديمقراطيون فيصعب فكّ رموز شخصياتهم. ومع ذلك يمكن أن يكونوا، هم أيضاً، غير متوازنين، مثل الطغاة، ويمكن أن يلعبوا دوراً مدمّراً في التاريخ”.

مرضى السلطة والتسلّط لهم استعدادات ذهنية ونفسية لا تنكشف بسهولة خلال حياتهم العادية، ولا تظهر إلّا بعد وصولهم إلى سدّة الحكم

ويؤكّد علم النفس الاجتماعي الحديث أن لدى مرضى السلطة والتسلّط استعدادات ذهنية ونفسية لا تنكشف بسهولة خلال حياتهم العادية، ولا تظهر إلّا بعد وصولهم إلى سدّة الحكم، حينها يُدرك جمهورهم واتباعهم ومُريدوهم أنهم “يفتقرون إلى الذكاء العاطفي، أو أنّ وعيهم الذاتي مهزوز، لذلك يسيئون استخدام سلطتهم للتعويض عن نقاط ضعفهم والحفاظ على السيطرة”.

وقد لا يتطلّب الأمرُ الاختصاصَ النفسي المتطوّر، بل التجربة والحكمة والثقافة الاجتماعية. ويرى الممثل القدير أنتوني هوبكنز (محقّاً) أنّ السلطة لا تغيّر الناس، بل تحرّرهم فحسب من الحاجة إلى التّظاهر “فالعادلون يستخدمونها لحماية المجتمع، والطامحون يستغلّونها لأنفسهم، أمّا ذوو الشخصيات المضطربة فيصبحون طغاةً”.

حسب صحيفة الحوار الأكاديمية المتخصّصة في البحوث النفسية، أكبر مشكلة تواجه العالم اليوم أن الذين يحكمون غالباً ما يكونون غير مؤهّلين لذلك، “إذ يبدو أن السلطة تجذب أشخاصاً نرجسيّين”، بل ومرضى نفسيّين أحياناً، أي “أولئك الذين يفتقرون على نحوٍ كبير إلى التعاطف وتأنيب الضمير”، ومع البقاء في السلطة مدّةً طويلةً ينمو ما يسمّى في علم النفس بـ”الثالوث الأسود” لسمات الشخصية غير السويّة، وهي الاعتلال النفسي (السيكوباتية) والنرجسية والميكافيلية، وتتداخل هذه الصفات الثلاث، وتبرز في عدم شعور الحكّام بالتعاطف مع الآخرين، ويضيق أفقهم، حتى لا يرون العالم من حولهم إلّا عبر منظار مصلحتهم الضيّقة، ويحاولون التوسّع في سلطتهم، وتجاوزها، تارّة بالديماغوجيّة الشعبوية والكذب، وأحياناً بالقوة الأمنية والعسكرية، وهم يميلون إلى تخريب الديمقراطية وضرب الرأي المخالف وتدجين الصحافة وخنق الأصوات الحرّة، “والأكثر أهميةً أنهم يفتقرون غالباً إلى المبادئ الأخلاقية”، التي تحول دون استخدام الآخرين في مآربهم الشخصية والسيطرة عليهم”، وتعتقد كاتبة المقال في “الحوار” أن فرص هؤلاء المرضى في الوصول إلى السلطة في البلدان الديمقراطية ضئيلة، ولكن “يمكن دائماً لأيّ شخص نرجسي وفاقد للرحمة والتعاطف أن يصل إلى السلطة عبر الانتخابات، ووصول شخص مثل دونالد ترامب لهو دليل على ذلك”.

في الديمقراطيات، تحوّل هالةُ الحكم الحاكمَ “مشروعَ مستبدّ”، لولا ردع المؤسّسات وسلطة القضاء والوعي بضرورة تداول السلطة

لكنّ أستاذ علم النفس، باسكال دي سوتر، يرى في كتابه “المجانين الذين يحكموننا”، أن المسؤولية تُلقى على عاتق الشعب، وعلى الناخبين في البلدان الديمقراطية خاصّة، “فإذا كان هؤلاء المجانين في أعلى هرم السلطة، فذاك لأننا نحن الذين انتخبناهم، ونحن ندرك أحياناً أنهم مرضى”، والسبب الرئيس في ذلك، أننا “نصوّت لأكثر الناس جنوناً، للمغرورين والكذّابين والمزيّفين، لأن عيوبهم تطمئننا على أنفسنا. بعبارة أخرى، نحن نصوّت لمن هم مثلَنا”، ويجب ألّا تُحمّل المسؤولية إلّا للناخب الذي قد “يكون أكثر جنوناً من الشخص الذي انتخبَه للحكم”. سردية أكّدها من قبل الفيلسوف والعالم الفرنسي بلاز باسكال (القرن السابع عشر)، إذ يعتقد أن الشعوب تريد أن ترى في ملوكها ظلال خيالها، وما تحمله من صور وهمية عمّن يجب أن يتولّى أمورها، وحتى إن قدّر لها يوماً الاختيار، فإنها لا تفسح للعقل مجالاً، ولن تسعى إلى فرض إرادتها، ويقدّم الفيلسوف أمثولةً ذلك الرجل الذي قذفته العاصفة في جزيرة مجهولة كان سكّانها يبحثون عن ملكهم المفقود، ولمّا كان الرجل يشبهه خليقةً، فقد أصرّوا أن يحكمهم، تردّد الرجل، لكنّه أمام إلحاحهم عزم على الاستجابة. وفقاً لباسكال، لم يكن سكّان الجزيرة في حاجة إلى ملكهم بالذات، بل إلى ملك يملئ الفراغ الموجود في خيالهم وأوهامهم، وبما أن سلطة الحاكم جاءت عبر الخيال والصدفة، فإن أيّ صاحب سلطة يعتقد أنه جدير بالحكم، لا يقلّ جنوناً عن ذاك الرجل البسيط الذي يتخيّل نفسه مَلِكاً.

بقطع النظر عمّا إذا كان هؤلاء قد جاؤوا إلى السلطة وهم مرضى نفسيون، أم اكتسبوا الأمراض في إثر بقائهم الطويل في السلطة، فإنّ جنون العظمة (النرجسية المفرطة والإحساس غير المتوازن بالأهمية الذاتية والتفوّق على الآخرين والشعور بأنهم أشخاص غير عاديين) يجعلهم يجدون صعوبةً في التعاطف مع مشاعر الآخرين، أولئك الذين هم “أقلّ قيمةً ومكانةً”، يساعدهم في ذلك فقهاء الطغيان والمتملّقون والإعلام المدجّن وخوف وصمت الشعوب المقهورة. قال أحدهم، يعدّد خصاله الخارقة ومسؤولياته الفريدة، وقد ظلّ في الحكم أكثر من أربعة عقود: “أنا قائد الثورة وأمين القومية العربية ورئيس الاتحاد الأفريقي وملك ملوك أفريقيا… أنا إمام المسلمين جميعاً”، وكتب محمد حسنين هيكل إنّ أنور السادات قال له يوماً: “أنا وعبد الناصر آخر الفراعنة العظام”.

اختيار الحاكم خطير على حاضر الشعوب ومستقبلها، فلا يمكنها استرداد سلطةٍ فرّطت فيها عن حسن الظنّ أو ثقة ساذجة

وأغلب الطغاة يتوهّمون أن رسالتهم مقدّسةٌ، وأن لهم شرعيةً ربّانيةً تسمو بهم فوق كلّ ذات بشرية وفعل إنساني، إذ صرّح أحدهم منذ مدّة لشعبه المشدوه أنه يتخاطب مع الله مباشرةً في المنام، ويتحادث معه حول ما يجب فعله في الغد فيتّخذ قراراته. لذلك، هم يعتبرون أن كلّ من يخالفهم يكون قد كفر بالدين، وكلّ من كذّبهم يكون قد سفّه الكتب السماوية. يقول عبد الرحمن الكواكبي: “ما من مستبدّ إلّا ويتّخذ صفةً قدسيةً يشارك بها الله”.

وسرعان ما يتحوّل جنون العظمة “بارانويا”. حينها، يتخيّل الحاكم أن كلّ مَن يخالفه الرأي يتآمر عليه، بل يتوهّم أن هناك مؤامرات مستمرّة تحاك ضدّه، لذلك فهو دائم القلق والخوف من الدسائس والانقلابات، فيسنّ القوانين والتشريعات التي تجعله صاحب السلطة المطلقة حتى يؤمّن نفسه ضدّ كلّ تهديد وهمي أو واقعي، والأدب يزخر بالأمثلة، إذ ورد في رواية “مجنون الحكم” (دار الشروق، 1990) وهي إسقاط متعمّد على واقع اليوم، للمغربي بنسالم حميش، إن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وحتى يتجنّب وسواس الليل لشعبه المتآمر وردع المتربّصين بسلطته، قلب المواقيت، وأنزل مرسوماً يقول فيه “تجنّباً لما يأتي به الظلام من هواجس وأحلام مزعجة، ورفعاً لكلّ غطاء عن كلّ متربّص بالسلطة ومتآمر ضدّي؛ أعلن أنا الحاكم بأمر الله قلب المواقيت والمواعيد، وأشرّع لكم العمل ليلاً والنوم نهاراً، وأمنع عليكم كل التجوّل في المدينة بعد طلوع الشمس… وإني لا أُوتى بمخالف إلا سفكتُ دماءَه… لا مردّ لمرسومي ولا تخفيف فيه”.

هل كان أبراهام لينكولن مخطئاً حين قال: “يستطيع معظم الأشخاص تحمّل الصعاب، لكن إذا أردت أن تختبر أحدهم حقّاً، امنحه السلطة”… إنها اليوم مغامرة غير مضمونة العواقب، إذ أثبتت تجارب الشعوب أن هذا الاختبار قد يكون خطيراً على حاضرها ومستقبلها، طالما لا يمكنها دائماً أن تستردّ سلطةً فرّطت فيها بسبب اختبار “حسن الظنّ” أو الثقة الساذجة في شخصٍ ما.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...