مفهوم “الهوية” في فكر المقرئ أبوزيد

إيطاليا تلغراف

 

 

 

سعيد الغماز-كاتب وباحث

 

 

تُعد الهوية من المفاهيم الأساسية التي تشكل وعي الإنسان بذاته وموقعه داخل المجتمع. وهي مفهوم متعدد الأبعاد يشمل الانتماء الثقافي والاجتماعي والديني واللغوي. الهوية لا تُبنى في فراغ، بل تتشكل عبر التفاعل مع المحيط والعوامل التاريخية والحضارية.
الهوية ليست قالبا جامدا، بل هي كيان حي يتطور ويتفاعل. وهي عنصر أساسي في بناء الإنسان والمجتمع. كما أن الكثير من المهتمين بقضايا التنمية والتقدم الاقتصادي، يضعون الهوية في سلم متطلبات أي نموذج تنموي.
من هنا تأتي أهمية تعزيز الهوية بطريقة متوازنة، تحترم الخصوصية وتواكب التغيرات. لكن أكبر تحدي تواجهه الهوية، هي حدود الحفاظ على الخصوصية ودرجة الانخراط في المتغيرات. وعدم ضبط هذه الحدود، قد يجعل المجتمعات إما غارقة في الجمود ورافضة للانفتاح، وإما غارقة في المتغيرات ورافضة للخصوصية. وكلا الخياران يُبعد المجتمعات عن هويتها، وبالنتيجة ابتعادها عن أهم عنصر في بناء الذات والانخراط في التنمية.
المفكر المقرئ أبوزيد الإدريسي في آخر خرجة إعلامية له، تطرق لمفهوم الهوية، وأبدع في إعطاء مفهوم متوازن ومتقدم لهذه الهوية. يقول أبو زيد إن هذا المفهوم الجديد للهوية، هو نتاج رحلة عشرين عاما من البحث والنقاش والممارسة الميدانية. هذا المسار الطويل في تحديد مفهومٍ متقدمٍ وشاملٍ وفعالٍ للهوية، لم يرتكز على المدخل اللغوي فحسب وهو المتخصص في اللسانيات، وإنما تعداه إلى الأبعاد السياسية والفكرية والفلسفية والتاريخية. هذه الأبعاد المتعددة والشاملة، جعلت أبو زيد يحدد خمسة عناصر أساسية مُكونة لمفهوم الهوية. وركز أبوزيد على أن هذه المكونات الخمس، يجب أن تكون مرتبة بعناية فائقة وإلا فقدت الهوية قيمتها في بناء الإنسان والمجتمع، ودخلت في عالم اللامعنى.
المكونات الخمسة للهوية كما رتبها أبوزيد هي: الدين – اللغة – التقاليد الإيجابية – المعارف النافعة والمكون الخامس هو الانفتاح. تنبيه أبوزيد لأهمية هذا الترتيب له ما يبرره، فجعل اللغة العربية في الرتبة الأولى بدل الدين، يجعلنا ننتقل من الإسلام إلى القومية. ولو جعلنا الانفتاح في المرتبة الأولى، انتقلنا من الإسلامية إلى العَلمانية. فالعلمانيون يركزون على الانفتاح، والقوميون يركزون على اللغة، ومن هذا المنطلق تأتي الأهمية القصوى لترتيب المكونات الخمسة لمفهوم الهوية.
الترتيب في مفهوم أبو زيد يعني أن الإنسان يأخذ جوهره من الدين، ويأخذ من اللغة ما لا يتناقض مع الدين. واستعمال مفهوم “الجوهر” من قبل المفكر أبو زيد، يجعل من البعد الفلسفي حاضرا بقوة في مفهومه للهوية. تعتبر الفلسفة أن الجوهر هو الشيء الثابت الذي لا يتغير رغم تغيُّر الصفات أو العرض، كما أنه الشيء الثابت الذي يقوم عليه وجود الشيء وتقوم به خصائصه. وقد حظي مفهوم “الجوهر” باهتمام كبير من قبل الفلاسفة كأفلاطون الذي رأى أن الجوهر الحقيقي يوجد في عالم المثل، وديكارت الذي قال إن الجوهر في الإنسان هو الفكر، فيما ذهب سبينوزا إلى أن الجوهر واحد وهو الله أو الطبيعة، وكل الأشياء الأخرى هي صفات أو تجليات لهذا الجوهر، وهو ما جعل سبينوزا يعتقد بوحدة الوجود ووحدة الجوهر.
يمكن القول إن استعمال أبو زيد لمفهوم “الجوهر” كأحد مباحث الفلسفة، يدخل في إطار استعمال الآليات الفلسفية، لتحديد مكانة الدين في مفهومه للهوية. إنه استنطاق لمفهوم فلسفي من قبل مفكر، يريد تحديد معالم أفكاره حول الهوية بشكل دقيق. كما أن الاستعانة بمفاهيم فلسفية، ينسجم مع الانفتاح الذي يدعو إليه أبو زيد ويضعه في الرتبة الخامسة من مكونات الهوية.
ويستفيض المفكر أبو زيد في تفسيره للعناصر الخمسة المكونة للهوية، بالقول إن كل عنصر من هذه العناصر يراقب العناصر الأخرى، وأننا نأخذ جوهر الهوية من مكونات الدين. بعد ذلك نضيف من اللغة ما لا يتناقض مع الدين، موضحا أن اللغة في الشعر الجاهلي فيها جانب لغوي يهم القرآن، وجانب قيمي نقيض القرآن كالحديث عن الخمر والعصبية القبلية مثلا. أما بخصوص التقاليد الإيجابية، نجد أبو زيد يستعمل العنصر الخامس المتعلق بالانفتاح، ليستدل بأفكار المدير السابق لليونسكو “روني ماهو” ويستحضر ما قاله في تعريف الثقافة حيث اعتبرها “العلم إذا سار سلوكا”.
يقول “روني ماهو” إن الثقافة ليست مجرد تراكم للمعارف أو الفنون، بل هي عنصر أساسي في تشكيل هوية الإنسان وتوجيهه نحو المستقبل. وهو ما يجعلنا نتساءل عن سر تجاهل المقرئ أبو زيد للثقافة في العناصر الخمسة المكونة للهوية. أبو زيد، وهو يستحضر أفكار المدير السابق لليونسكو، لم يدرج الثقافة كعنصر مكون للهوية، بل ارتأى تفكيك العناصر المكونة للثقافة، وإدراجها في مكونات مفهومه للهوية. لذلك نجد أبو زيد يتحدث عن اللغة والتقاليد والمعارف، وهي من مكونات مفهوم الثقافة. فإذا كان مصطلح الثقافة غائبا عن مكونات الهوية في مفهوم المفكر أبو زيد، فإن عناصرها حاضرة في هذا المفهوم.
أما بخصوص المعارف النافعة فيقول أبو زيد إن هناك العديد من المعارف التي تضر ولا تنفع كالتلاعب الجيني والإفساد البيئي والقنبلة الذرية.
المكون الخامس للهوية هو الانفتاح الذي يقول عنه المفكر إنه الهواء الذي يدخل على الهوية من النافذة لكي لا تختنق. وفي هذا الصدد يستحضر أبو زيد الفيلسوف روجي غارودي حين سأله “ما سر سقوط الحضارات”، فكان جواب غارودي “المسلمون وغيرهم في القانون الكوني، إذا انغلقت الهوية ماتت”. ويعتبر أبو زيد أن الانفتاح قضية محورية في بناء الهوية والحفاظ على حياتها من الموت حسب تعبير غارودي.
في خرجته الإعلامية الأخيرة، يستحضر أبو زيد حكاية رئيس الجمهورية الفرنسية الأولى شارل ديغول مع أحد البرلمانيين. سأله هذا الأخير منتقدا الأموال العمومية الكثير التي يصرفها ديغول من أجل نشر اللغة الفرنسية. وكان جواب ديغول مفاجأ للبرلماني: من يتكلم فرنسي يشتري فرنسي (Qui parle français achète français). هي فقط حكاية، لكن مدلولها الثقافي وارتباطها بالهوية، يجعل منها حكاية تحمل الكثير من الدلالات ونحن نتحدث عن الهوية.
في الأخير، نقول إن المفكر أبو زيد، استعمل كل المهارات التي لا تكتفي بالظاهر في المصطلحات، بل يخوض في كنهها، مميزا خصائصها وشارحا لمنطوقها. وهو ما جعله يُبدع فكريا في تحديد العناصر الخمسة المكونة لمفهوم الهوية. وليس من الصدفة تمييز أبو زيد بين الإدراك والوعي في علم الأنثروبولوجيا. حيث اعتبر أن الإدراك هو معرفة الشيء، أما الوعي فهو معرفة أولا جدواه وثانيا مأتاه أي من أين أتى. ولعل هذان المفهومان في علم الأنثروبولوجيا، يشكلان قيمة مضافة في فهمٍ جيدٍ لنظرية المفكر أبو زيد في “الهوية”.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...