نتانياهو.. أسير غزة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

يونس مسكين

 

 

تابعت بكثير من الاهتمام والاستغراب طيلة الأيام الماضية، إشهار قسم كبير من مغاربة الشبكات الاجتماعية، سلاح التشكيك ونظرية المؤامرة تجاه الأنباء المرتبطة بالأزمة غير المسبوقة التي تمرّ ومنها علاقات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

الحقيقة أنني لا ألوم أيا كان حتى وإن ثبت خطأه في التقدير تجاه هذه الأنباء، لأن ما نعيشه أمام مشاهد وقصص الإبادة والتجويع والتنكيل في غزة، كفيلة بأن تنزع من الإنسان قدرته على الوثوق حتى بنفسه، وليس لمن يشاركون في حفلة التقتيل الدموي هذه.

لكن دعونا نقوم بمجهود جماعي، وننظر لما يجري من أحداث حقيقية، ونستخلص درسا جديدا من دروس الصمود والمقاومة الفلسطينيين، حين فرض القطاع المحاصر والمدمّر نفسه كرقم أساسي في معادلة الجولة التي يقوم بها ترامب ابتداء من اليوم، بين دول خليجية، وهي الزيارة التي يمكن اعتبارها الفرصة الوحيدة لمنع استمرار المذبحة طيلة السنوات الأربع لولاية ترامب في البيت الأبيض.

فحين أعلنت حركة “حماس” عن قرارها إطلاق سراح الرهينة الأميركي الإسرائيلي عيدان ألكسندر، لم يكن الحدث إنسانيا فقط، بل كان سياسيا من الطراز الثقيل، وحوّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، إلى أسير حقيقي لدى غزة، خاصة بعدما تبيّن أن ترامب كان يفاوض حماس بينما كان “يقاطعه”.

فجأة، بدت المقاومة الفلسطينية كما لو أنها تتحدث باسم المعقول السياسي، وتخاطب البيت الأبيض بلغة المبادرة، بينما الدولة التي ظلت لعقود تقدم نفسها باعتبارها “الطرف العاقل الوحيد” في الشرق الأوسط، كانت منهمكة في قصف قطاع غزة وتوسيع رقعة الدم.

في الخلفية، توجد ملامح أزمة غير مسبوقة بين تل أبيب وواشنطن، تكاد تجعل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو… أسيرا سياسيا في غزة. “إذا جرت الأمور بالطريقة التي أعلنت بها، فهذا يعني أن إسرائيل باتت وحدها، وأن ترامب لم يعد له أي حافز لدعمها في معركة تحرير الأسرى…”، يقول أحد الصحافيين الذين يرافقون ترامب إلى الخليج كما نقل لي مصدر خاص.

نعم، عنوان هذا المقال ليس مجازا. نتانياهو يبدو اليوم محاصرا على أكثر من جبهة: داخليا بفعل تمرد عائلات الأسرى وغضب المعارضة، وإقليميا بسبب صعود حماس كفاعل لا يمكن تجاوزه، ودوليا نتيجة تحوّل واشنطن من راعٍ أعمى لإسرائيل إلى شريك مفاوض مع خصمها المركزي.

في قلب هذه المعادلة الجديدة، تقف الولايات المتحدة، وتحديدا إدارة دونالد ترامب، التي وإن وصمتها كثيرون بولائها المطلق لإسرائيل، تبدو اليوم وقد أعادت ترتيب أولوياتها.

صحيح أن ترامب منح تل أبيب كل ما لم يمنحه أسلافه، من نقل السفارة إلى القدس، إلى الاعتراف بضم الجولان، إلى رعاية التطبيع، لكنه اليوم يعود إلى البيت الأبيض محملا بهمّ أكبر: تفادي حرب كبرى مع إيران، وضمان استقرار الشرق الأوسط في ظل مواجهة اقتصادية مفتوحة مع الصين، وتضاؤل هامش المناورة أمام انتخابات قادمة.

ها هي غزة تكشف هشاشة الرهان الإسرائيلي: بعد أكثر من 18 شهرا من حرب لا تهدأ، لم تتمكن إسرائيل من تحرير رهينة أميركي واحد دون تدخل مباشر من حركة حماس ووسطاء إقليميين.

والأسوأ أن هذه الوساطة تمّت دون علم الحكومة الإسرائيلية أو موافقتها المباشرة، بل تم إبلاغها لاحقا بالنتيجة، في مشهد غير مألوف لحليف يدّعي التفوق الأمني والسياسي.

الخلافات بين نتانياهو وترامب خرجت من كواليس الغرف المغلقة إلى العلن. الملف الإيراني يُمثّل نقطة الانفجار المركزية: نتانياهو يدفع باتجاه توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، بينما ترامب يبحث عن صفقة تحفظ ماء وجه إيران وتمنع الحرب الشاملة التي قد تجر واشنطن إلى مستنقع غير محسوب.

أما في ملف غزة، فالصدام صار واضحا. إسرائيل تسعى لاجتياح كامل وتدمير شامل لحماس، بينما تدفع إدارة ترامب باتجاه هدنة وتبادل أسرى وإعادة إعمار، مع حديث يتكرر عن ضرورة صياغة خطة “اليوم التالي”.

لا تقف الأزمة عند الخلاف حول الأولويات، بل تمتد إلى بنية العلاقة نفسها بين الحليفين. فنتانياهو الذي بنى رأس ماله السياسي على علاقته الشخصية بترامب، وجد نفسه مستبعدا من ترتيبات حساسة تمس الأمن القومي الإسرائيلي.

فترامب لم يُطلعه مسبقا على التفاهم مع الحوثيين، ولم ينسق معه قبل التفاوض مع إيران، بل بلغ الأمر أن يُبعث مستشار نتانياهو إلى واشنطن بشكل عاجل لمحاولة استكشاف “ما الذي ينوي ترامب إعلانه في زيارته الخليجية”.

الأسوأ بالنسبة لنتانياهو أن فشله الداخلي بات مادة للإجماع الإسرائيلي: من المعارضة إلى عائلات الأسرى، ومن الصحافة إلى المؤسسة العسكرية.

زعيم المعارضة يائير لبيد وصف ما يجري بأنه فشل سياسي فادح، وزعيم حزب معسكر الدولة بيني غانتس دعا نتانياهو لتحمل مسؤوليته والبدء بإعادة الأسرى فعليا، فيما قالت عائلات الرهائن إن الحرب لم تعُد وسيلةً لاستعادة أبنائهم بل مبررا لإهمالهم.

وإذا كان بعض المراقبين لا يزالون يراهنون على صلابة العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن الواقع الإعلامي والسياسي في واشنطن يروي حكاية أخرى.

قرأت تقريرا مفصّلا ساهم فيه أحد أبرز مراسلي شبكة BBC في واشنطن، ووصف في شهادة صحافية دقيقة ما يتابعه الآن من قلب القرار الأميركي قائلا: “كان الأميركيون يوما ما داعمين ثابتين لإسرائيل… وتلك الأيام ولّت”.

كشفت تصريحات ترامب الأخيرة عن تغير جوهري في تموضع أميركا بعد عقود من التماهي المطلق مع إسرائيل، ورغم الخطاب الجمهوري التقليدي الداعم لإسرائيل “بلا شروط”، إلا أن المتغيرات السوسيولوجية في الداخل الأميركي تُحدث صدعا حقيقيا في هذا التماهي.

نقرأ في تقرير “بي بي سي” دائما، ووفقا للاستطلاعات الأخيرة التي أنجزتها مؤسسة “غالوب” الشهيرة، كيف أن نسبة تأييد الأميركيين لإسرائيل في أدنى مستوياتها منذ ربع قرن، بينما تضاعفت نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين. وهو ما يؤشر إلى أن التحول الجاري ليس فقط سياسيا، بل ثقافيا أيضا، ويطال حتى القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري ذاته.

هذه التطورات تكشف أن بنيامين نتانياهو لا يواجه فقط خلافا مع إدارة ترامب حول غزة وإيران، بل يواجه تحولا بنيويا في المزاج الأميركي العام، قد يحوّله من شريك مدلّل إلى عبء استراتيجي تُرسم له حدود الدور، لا العكس.

في المحصلة، نتانياهو ليس أسير غزة بالمفهوم العسكري، لكنه غارق في مستنقعها السياسي والاستراتيجي. كلما اشتد قصفه، ازداد بعدا عن الأهداف. وكلما طال أمد الحرب، زاد عدد من يكتشفون أن إسرائيل لم تعد الطرف الذي يُملي الشروط، بل صارت طرفا يُنتظر منه أن يرضخ لها.

في المقابل، تظهر حماس اليوم ليس فقط كمقاومة صامدة، بل كفاعل سياسي يضبط إيقاع المنطقة، ويُحرج الخصوم قبل الأصدقاء.

من كان يظن أن غزة، التي خُطط لتجويعها وإبادتها، ستكون المنصة التي يُعاد من خلالها رسم توازنات الشرق الأوسط؟ ومن كان يتخيل أن نتانياهو، الذي طالما تباهى بعلاقته الحصرية مع رؤساء أمريكا، سيجد نفسه على الهامش، فيما تجري التفاهمات من خلفه.. ومع حماس؟

نعم، غزة سجنت الكثيرين من أبنائها، لكنها اليوم تحتفظ بأسير مختلف… رجلٌ اسمه بنيامين نتانياهو، اختار الحرب طريقا فحوصر في نتائجها… لا فكّ الله أسره!

صوت المغرب


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...