ضحى عبد الرؤوف المُلّ
تبرز لوحة الفنان فضل زيادة كصرخة صامتة في وجه السطحية، أو كنداء غامض ينبعث من لُجّة اللون، ومن تكوين تجريدي يُخفي أكثر مما يُظهر. كينونة بصرية تحمل في داخلها تجاذبا بين الحسي والعقلي، وبين الانفعال والتكوين، وبين العشوائية الظاهرة والبنية الرياضية الكامنة. في زمن باتت فيه الصورة تزاحم المعنى، فهل اللون هو بطل بلا ملامح في لوحة الدكتور فضل زيادة؟
اللون في لوحاته لا يلبس قناع التمثيل، ولا يخضع لقواعد التظليل أو الواقعية، بل هو طاقة. إذ ينفجر الأحمر في المساحة السفلى، كثيفاً، ملتهباً، يكاد يختنق بشظايا خضراء وزرقاء تُقحم نفسها داخل الحقل الناري ككائنات تحاول النجاة. صعوداً، يتحوّل اللون إلى الأصفر، ثم الأخضر، فالأزرق، كأننا أمام تدرّج عنصري من التراب إلى الأثير، من الحسي إلى الروحي، من الأرض إلى السماء. هذا التدرّج لا يخلو من صدامات. فاللون لا ينزلق بهدوء، بل يصطدم، يُكشط، يُفرَك، يُشوَّه عمدًا. التقنية المستخدمة تشرح أثر الفرشاة، بل وتحتفي به، كما لو أن فضل زيادة لا يرسم بالألوان، بل بالانفعال ذاته. كأن اللوحة تقول: لا شيء هنا يُستعار، كلّ لون يعيش موته الخاص. فهل الخط هو الإيماءة الخفية؟
رغم طغيان اللطخات والانفعالات اللونية، إلّا أن الخط موجود كحركة، كنبض. هو ليس خطًا محددًا بالمعنى الكلاسيكي، بل هو آثار مرور، مسارات طيفية، كأن الخط هنا ظلٌّ لحركة يد، أو تردّد نبضة قلب. في أسفل اللوحة، يبرز الخط الهندسي صريحاً، مستطيل أبيض مقسوم بخط أفقي. وجود هذا الخط يكشف عن لحظة تأمّل وسط الغليان. هو علامة “عقلانية” وسط سيل العاطفة، استراحة شكلية تقول: “أنا هنا، أشاهد، وأتأمل”.
هذا المستطيل يكاد يُشبه عدسة مجهرية تنظر إلى جزء من النسيج العام للوحة، وتعيد تركيبه بإطار واضح. المفارقة أن داخل هذا الإطار نرى الألوان نفسها، ولكنها محاصَرة، صامتة، مُحتواة .لكن ما الخارج؟ وما الداخل؟ من يحبس من؟ وما هو المعنى الغائب في العمق؟ وما هو سؤال الفن المعاصر التي تطرحه هذه اللوحة؟
في غياب أي موضوع تمثيلي، تتحرّر اللوحة من عبء “الشرح”، وتُدخل المتلقي في تجربة تأملية صافية. إنها لوحة غير ناطقة ولكن مُحاوِرة. لا تقول “ما”، بل تقول “كيف”: فكيف تتحرّك العين من الأسفل إلى الأعلى؟ وكيف يتغيّر الانفعال حين ننتقل من الأحمر إلى الأزرق؟ وكيف يُغيّر المستطيل الصغير علاقتنا بالبقعة التي يُؤطرها؟
اللوحة هي نصّ بصري مركّب، تنتمي إلى تقاليد الفن التجريدي الحديث، من كليمت إلى روثمان، ولكنه يضع لمسته الخاصة عبر المزج بين الحسّية البصرية، والهندسة الذهنية. فاللوحة تفرض على المتلقي أن يتعمّق فيها، أن يُعيد بناءها ذهنيا، أن يجد فيها ما لا يُقال. ولعلّ أعظم ما فيها أنها تمنحك مساحة للضياع دون أن تُخيفك. فهي لا تفرض قراءة واحدة، بل تُفسح المجال لكل تأويل أن يكون على حق، دون أن يُقصي الآخر. في زمن الحشو البصري، تُذكّرنا هذه اللوحة بأن الفن لا يزال قادراً أن يكون سؤالًا مفتوحاً، لا جواباً جاهزاً، فاللوحة ليست تأريخا للحياة، بل تجربة ميتافيزيقية؛ إذ لا تُظهر ما هو موجود، بل تدعو إلى الوجود نفسه. وكأن الفنان يسألنا: هل تستطيع العين أن تفكّر؟ هل يستطيع اللون أن يكون فكرة؟ وهل ما بين الطيف واليقين أسطح لفضاءات ذات أبعاد متعددة؟
فاللوحة تنقسم بصرياً إلى ثلاث طبقات لونية أفقية: العلوية (زرقاء وذهبية): توحي بالسماء أو الأفق العالي، فيها عمق واتساع، وتُذكّر بالكون أو اللاوعي. الوسطى (أصفر وأخضر): توحي بالحياة، الحركة، الغنى، ربما النباتات أو الحقول. السفلى (أحمر مشتعل): تُعبّر عن الأرض، الجذور، الانفعالات القوية أو حتى الألم الداخلي.كما أن استخدام الألوان ليس اعتباطياً، بل ينسج طبقات نفسية وعاطفية: الأحمر يوحي بالجسد/الأرض/الدم، الأصفر يوحي بالفكر/الحركة/الطاقة، الأزرق يوحي بالروح/السماء/التأمل.فماذا عن جيومترية اللوحة وهندسيتها؟
رغم الطابع التجريدي الطافح بالأبعاد البصرية، إلا أن العنصر الهندسي الدقيق في أسفل اللوحة. مستطيل صغير أبيض الإطار مقسوم بخط أفقي.هذا المستطيل يعمل كـ”نافذة” أو “مرآة مصغّرة” تعكس النسيج اللوني للوحة، لكنه محصور ومؤطر، مما يخلق تبايناً بين الفوضى العضوية الحرة (في سائر اللوحة)، والنظام العقلي الرياضي (في المستطيل الهندسي).
فالخطوط الأفقية المتكررة في كامل اللوحة توحي بإحداثيات كونية، أو نظام مخفي داخل الفوضى. فهل من تقسيم ثلاثي النسبة (مثل نسبة 1:3 بين كل طبقة لونية)؟ فهل هي رؤية مستقبلية تحملها اللوحة؟ وهل هذه اللوحة مصفوفة لونية لأن كل جزء منها يحمل قيمة معينة من الشدة اللونية والتوتر البصري؟
أما فكرة “اللانهاية في التفاصيل”، فكل جزء صغير يمكن تحليله وكأنه يُعيد بناء الكل، كما في الهندسة الكسرية Fractal Geometry. فالتحوّل بين العناصر (السماء، الأرض، الفكر، الجسد)، كما أن التوتر والتوازن بين الانفعال الحر والنظام العقلاني، هو غموض بصري فهي لا تُمثّل شيئًا محدداً، لكنها تفتح مجالات التأويل.
اللوحة تنقل إحساساً بالعالم كحقل ديناميكي من القوى والعناصر المتداخلة، مرسوم بلغة هندسية حرّة، وعاطفة منضبطة.فيمكن قراءتها كمشهد كوني، أو كخارطة داخلية للنفس، أو حتى كقطعة موسيقية مجرّدة تعزفها الفرشاة على قماش الزمن.وجود مستطيل صغير أبيض الإطار في الزاوية السفلى اليمنى، داخل المستطيل، هو إعادة تمثيل مصغّرة لجزء من اللوحة نفسها. والخط الأفقي الدقيق يقسم المستطيل، في إشارة إلى مقياس أو ترسيم أو تأطير. وظيفته ليست زخرفية، بل مفاهيمية. إذ يمكن اعتباره يعمل كعدسة مكبرة، أو “نافذة داخل النافذة”، تسمح للمُشاهد بالتوقف، بالتأمل، وبالتفكير في فعل النظر نفسه. أو يمكن قراءته كإشارة إلى علم الخرائط أو هندسة الوعي البصري.مما يخلق مفارقات في المعنى، يشير إلى أن داخل الفوضى وُلد نظام؛ داخل الكلّ، وُلد الجزء؛ وفي الجزء، انعكس الكلّ. فهل الدكتور زيادة هو رسّام يرسم على سطح الزمن تشكيلياً؟ وهل يحتفظ بمعنى التحوّل من الأرض إلى السماء، من الأحمر إلى الأزرق، من الجسد إلى الروح؟
وهل يجعلنا نبدأ من العمق اللاواعي (اللون الأحمر)، ونصعد تدريجياً نحو الأفق الواعي من خلال الهندسة الروحية، وهي المزج بين الخطّ الصارم (المستطيل) والانفعال العاطفي (حركة اللون)، مما يُنتج توازناً بين العالمَين؟
فضل زيادة لا يُقلّد الغرب، بل يُنتج تجريداً متجذّراً في الإحساس المتوسطي/الشرقي؛ فلون الأرض لديه ليس فكرة، بل معايشة: أرض تحترق وتتكلم. والسماء ليست فكرة عن السمو، بل طبقة قابلة للملامسة عبر اللون. والبنية الهندسية لا تأتي من الحداثة الغربية فحسب، بل من الزخرفة الإسلامية، علم الفلك، والمخطوط العربي.فريشته نخبوية، لا تُجامل العين الكسولة. ولوحاته بمجملها هي فنّ للتأمل، لا للزينة.





