الأطفال المدلَّلون

إيطاليا تلغراف

 

 

 

أحمد المرزوقي
كاتب وناشط حقوقي مغربي

 

 

 

حبّ الوالدين أطفالهما من الغرائز الربّانية والمسلمات الكونية، التي نراها حتى في البهائم العجماء والحشرات الدقيقة، التي قد لا تُشاهَد إلا بالمجهر. فما من جنس خلقه الله على هذه البسيطة إلا يندفع تلقائياً إلى التناسل من أجل التكاثر والاستمرار عبر ضمان الخلف. هذا أمر عادي جدّاً من قبيل أن الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب. ولكنّ الشيء الذي أصبح اليوم يشكّل نوعاً من الشذوذ عن القاعدة، هو ذاك الحبّ الجارف الأعمى الذي لا يُبقي ولا يذر من بعض الوالدَين لفِلْذات أكبادهما. حبّ مستعر أهوج لا مدى له ولا حدود، فيصير الأب أو الأمّ عبدَين خانعَين مطيعَين لكلّ نزوات أبنائهما، حتى لو طلبوا منهما المستحيل لسعيا إلى محاولة تحقيقه لهم، ولو على حساب صحّتهما ومالهما ووقتهما.
وقد لا يقتصر الأمر على من رُزقوا بالذرّية بعد طول انتظار، أو من رزئوا في بضع أولادهم إثر مرضٍ عضال أو حادثة مؤلمة لم يسلم منها إلا واحد أو اثنين، كما لا يمكن أن يطاول هذا الحبّ الطاغي فئةً اجتماعيةً دون أخرى، بل قد نجده عند بعض الميسورين والمثقّفين كما قد نلاحظه لدى فقراء لا يملكون عشاء ليلة. وسبب هذا المقال ملاحظات عديدة وأمثال كثيرة لأطفال مدلّلين كانوا سبباً لقطع الرحم بين أُسرٍ وإخوةٍ وأصدقاء، فهذا طبيب جرّاح مشهود له بالكفاءة العالية في ميدانه، إن سمعته يتحدّث ويزجي النصائح للمواطنين في التلفاز، لأقسمت أنه أبرع مربٍّ على الإطلاق، ينبغي التأسّي به والاقتداء به. بينما هو في الحقيقة عبدٌ مملوك يرفع الراية البيضاء حيال طفل نزقٍ وقحٍ جسورٍ يفعل به الأفاعيل، إذ كلّما حقّق له رغبته في اقتناء لعبة نفيسة رماها بعد يوم أو يومين ليطالب بلعبة أخرى أغلى منها وأنفس، والطبيب الأسير لرغبات ابنه لا يمانع ولا يجادل، بل يسارع إلى شراء المطلوب منه من دون أدنى تردّد أو همهمة، وكأنّ تلك الطلبات الصبيانية التي لا تنتهي، أوامر عسكرية لا تجوز مناقشتها، أو حتى مجرّد التساؤل حول فائدتها.

أن يتمادى ضرر الطفل إلى الناس وإلى المُلك العمومي، فذلك ما لا يقبله عاقل

إلى هنا، يبقى هذا الأمر شخصياً لا يخصّ إلا الطبيب وابنه، ولكن أن يتمادى ضرر الطفل إلى الناس وإلى المُلك العمومي، فذلك ما لا يقبله عاقل. فقد حدث ذات مرّة، والجرّاح يتحدّث مع زملاء له عند عتبة باب جناح من الأجنحة، وهم يتأهّبون لمغادرة عملهم في المساء، أن خرج الطفل خارج المبنى وهو في حالة غضب من أبيه، الذي بدا له أنه أطال الحديث مع زملائه أكثر من اللازم، فتناول حجراً كبيراً وهوى به بكلّ قواه على باب في مدخل الجناح ليتشتّت الزجاج في فرقعة كبيرة إلى شظايا متطايرة أمام دهشة كلّ من كان موجوداً في المكان من أطباء وممرّضين ومرضى. وبطبيعة الحال، كنت أنتظر ردّة فعل فوري وصارم من الجرّاح، ولم أشكّ في أن زملاءه الذين ظهرت في محيّاهم علامات الاستنكار والذهول كانوا يتوقّعون الشيء نفسه، إلا أن الجرّاح ضحك ضحكة متكلّفةً وهزّ كتفيه في نوع من الانهزام، وقال متوجّهاً إلى الطفل المدلّل، معاتباً إيّاه بلهجة هي أقرب إلى الاسترضاء منها إلى العتاب: املك أعصابك يا بني، وقل لوالدتك التي تنتظرنا في الخارج أن تتريث لحظةً قصيرة. فتفرّق جمع الأطباء وهم في حالة من الغيظ الكظيم، إلا أن واحداً منهم لم يطق صبراً، فقال لزميله بنرفزة ظاهرة: مع كامل تقديري لك زميلي العزيز، ليست هذه هي المرّة الأولى التي يفعل فيها طفلك مثل هذه الصبيانيات. أعتقد أنه من باب أحرى ألا تدع أمّه تصحبه معها إلى المستشفى بعد اليوم. فاستشاط الجراح غضباً، وردّ على معاتبه بلهجة قاسية، لهجة من أهينت كرامته، وجرى بينهما جدال محتدم كاد أن يفضي إلى تشابك بالأيدي، لولا تدخّل بعض المحسنين. وكان المنظر في الحقيقة منظراً بئيساً يبعث على الاستهجان والامتعاض، ولا سيّما أن بطليه كانا محسوبَين على النُّخبة العالمة، لكن خصامهما كان خصام حمّالين في المرسى.
وهذه سيدة ميسورة كانت كلما جاءت لزيارة أقاربها أو صديقاتها، أعلنت عندهم حالة الطوارئ، فسارعوا إلى قفل الدواليب وإخفاء كلّ غال ونفيس بسبب رعونة طفليها، اللذين كانا متخصّصين في ممارسة لعبة الدمار الشامل حيال كلّ ما تطاوله أيديهما من نفائس ومقتنيات غالية، وذلك تحت أنظار أمهما اللامبالية. وقد كان الناس في أول الأمر يتساهلون مع السيدة وطفليها في نوع من المجاملة الزائفة، مردّدين بنفاق كبير كلّما أتلفا جهازاً أو كسرا آنيةً: دعيهما يلعبان. إنهما مجرّد طفلَين بريئَين. فكانت السيدة ترتاح لهذا الكلام المغشوش، وترسم في ملامحها غضباً مغشوشاً كذلك، حتى إذا ما ولّت الأدبار، انبرى أهل الدار إلى إحصاء الخسائر الفادحة في المال والعتاد، وهم يلعنون السيّدة وطفليها المدلَّلَين، محمّلاً بعضهم بعضاً مسؤولية قبول استضافتها مع مارديها. واتفق ذات مرة أن تجرّأت سيّدة، وهي في بيتها تستقبل مكرهة قريبتها البلهاء، فزجرت أحد الطفلين في الوقت المناسب، وكان يهم وهو على أعلى سلم طويل بفكّ سلك غليظ يشدّ ثريّا ثمينةً إلى سقف صالون مجاور للصالون الذي كانت فيه السيّدتان تتحادثان، بينما كان أخوه الصغير يوجّهه بعزم وحماس من تحت، ويمدّه بملقاط كلما احتاج إليه. فاغتاظت أم الطفلين غيظاً شديداً، ولم تجد من حرج في معاتبة مضيفتها قائلة: أهيب بك أن لا تنهرهما بعد اليوم.

ملاحظات عديدة وأمثال كثيرة لأطفال مدلّلين كانوا سبباً لقطع الرحم بين أُسرٍ وإخوةٍ وأصدقاء

إنهما مُرهفا الإحساس، ومن المحتمل أن يحدث لهما مكروه بهذا التعنيف القاسي منك. دعهما يلعبان، وإن أحدثا أضراراً فسوف أعوّضك بشيك سمين. ثمّ أخرجت من حافظة يدها دفتر شيكات وقالت لصاحبتها: خذي شيكاً واكتبي فيه قدر ما طاولك من أضرار. فابتسمت ربّة البيت بسمة ساخرة، وردّت بهدوء: طوّقي عنقك بهذا الشيك واجعلي منه قلادة، وخذي مارديك فوراً، واعفيني من صلة رحم تكلفني آلاف الدراهم.
والأمثال من هذا القبيل أمست لا تُحصى ولا تعدّ. وإني لأغبط بعض الأطفال على بحبوحة الدلال الذي يعيشون فيه، وذلك كلّما استعرضت طفولتي القاسية، وجدت أني كنت مثل كرة تنس يتقاذفها ثلاثة لاعبين قساة جناة. يوقظنا عمّ جبار قبل أذان الفجر بنصف ساعة كي نذهب إلى الكتّاب لحضور حصّة القرآن الكريم، وفقيه في الجامع، هو في حقيقة أمره جلّاد محترف يسوط الأطفال ذات اليمين وذات الشمال، وهو يحكّ لحيته الطويلة ويغالب النعاس، ومعلّم صارم عبوس يضربنا على رؤوس أصابعنا بالمسطرة بسبب وبغير سبب، ورغم ذلك لم يصبنا والحمد لله مكروه ولا هم يحزنون. ولكن مع ذلك، يبقى في النهاية بين البين هو الصحيح، والوسط كان وما زال دائماً هو أنجع الطرق لتربية النشء.
وحبّذا لو صار التجنيد العسكري عندنا إجبارياً على الفتيان كما على الفتيات، لا محصوراً على طبقة الفقراء دون أبناء الذوات، كنا ربحنا أجيالاً متجانسةً منظّمةً ومنضبطةً تعطي للمسؤولية حقّها وللحياة معناها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...