الفضاءات البديلة في المغرب المعاصر: قراءة سوسيو–أنثروبولوجيّة في رمزيّة الهامش ومجتمع الانتظار

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار

 

 

 يشهد المغرب المعاصر تحوّلات بنيويّة عميقة تعيد تشكيل خرائط الفعل الاجتماعي والمجالي، وتكشف عن بروز فضاءات جديدة تُمارَس فيها الحياة اليومية خارج سلطة المؤسسة الرسمية ومنطق الدولة والسوق.
في ظل هذه التحولات، تظهر «الفضاءات البديلة» كالمقهى، والرصيف، والعالم الافتراضي الرقمي كتعابير رمزية عن طاقة اجتماعية تسعى إلى إعادة تعريف الانتماء والوجود في سياقٍ تتراجع فيه قدرة الفضاءات الرسمية على احتضان الحلم الجمعي.
ننطلق في دراسة وتحليل هذا الموضوع من السؤال المنهجي: هل أصبح العالم الافتراضيّ والفَضَاءُ الرَّقْمِي والمقهى والرصيف؛ مَكَانًا يَمْتَحِنُ فِيهِ المجتمع تَوَازُنَهُ بَيْنَ الْاِمْتِثَالِ والمساءلة وبَيْنَ الهويّة والانتماء للوطن والنقد، وبين الْحُلْمِ بِالْفِعْل والعمل وَالْقُبُول بالكلام والنقاش والحوار؟
 لم يعد الهامش فضاءً للغياب أو السلبية، بل صار مختبرًا لإنتاج المعنى وممارسة نوعٍ من المقاومة الرمزية الصامتة. فالمغربي المعاصر، حين يواجه انسداد الأفق المؤسسي والاقتصادي، يبتكر فضاءات رمزية بديلة تُتيح له التعويض عن فقدان المعنى، وإعادة ترتيب العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الواقع والخيال، وبين الفعل والانتظار. هذه الفضاءات لا تُختزل في بعدها الفيزيائي أو الشبكي، بل هي عوالم اجتماعية موازية يتداخل فيها النفسي بالثقافي والاقتصادي والرمزي، وتشكل هندسة جديدة للاجتماع الحضري المغربي.
 الرهان في هذا التحليل ليس وصف الظاهرة بل تفكيك منطقها الداخلي: كيف تتحوّل الأماكن العابرة إلى حواضن للانتماء الرمزي؟ وكيف تبني الذات المغربية أشكالًا جديدة من الوجود والمواطنة خارج المنظومات الرسمية؟ إنّ الفضاءات البديلة تعبّر عن دينامية داخلية في الاجتماع المغربي، فهي ليست قطيعة مع النسق الوطني، بل استمرار له بصيغٍ غير رسمية، تعكس سعي المجتمع إلى خلق توازن بين الامتثال والممانعة، بين الحلم والواقع، بين الانتظار والفعل.
 في هذا السياق، يغدو «الفراغ» المادي والرقمي علامة أنثروبولوجية على طور جديد من الاجتماع المغربي، حيث تتراجع شرعية الفعل السياسي والاقتصادي لصالح قدرة الإنسان على إنتاج المعنى وسط العجز. المقهى، الرصيف، والعالم الرقمي ليست تفاصيل هامشية، بل مرايا تكشف عن إعادة تشكيل الذات المغربية في زمن التحولات الكبرى، وعن أنماطٍ جديدة للعيش والمقاومة الرمزية.
أولاً: المقهى كمختبرٍ للهوية والتعويض الرمزي
 يُعدّ المقهى أحد أبرز تمثلات الفضاء البديل في المغرب، إذ يتحول من مكانٍ ترفيهي إلى مختبر اجتماعي مفتوح لإنتاج الهوية والتفاوض مع الواقع. في ظل غياب مؤسسات الإدماج الرسمية، يقوم المقهى بوظائف رمزية تعويضية، تتيح للأفراد ممارسة شكلٍ من المشاركة الرمزية في الحياة العامة. إنه فضاء لـ«الاندماج المعلّق»، حيث يُثبت الفرد وجوده الاجتماعي في مكانٍ غير منتج اقتصاديًا، لكنه غني بالمعاني التفاعلية وبالرموز الجماعية.
 في المقهى، تتقاطع ثنائية الخاص والعام، الداخل والخارج، الرسمي والعفوي. فهو فضاء حدودي يعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويتيح ممارسة طقوس يومية؛ كالنقاش، والسخرية، والتعليق، والنكتة؛ تُترجم رغبة خفية في المشاركة والانتماء. اللغة هنا تتحول إلى أداة مقاومة ناعمة، وإلى ممارسة رمزية للمواطنة الممكنة.
 غير أنّ هذه المواطنة الرمزية لا تخلو من المفارقة: فهي تمنح الذات وهم الفعل أكثر مما تمنحها القدرة عليه. فهل المقهى فعل مقاومة أم مجرد آلية لتسكين الإحباط الجماعي؟ هذه الجدلية تكشف التوتر بين المشاركة والانكفاء، وبين الاعتراف والإقصاء، وتجعل من المقهى مرآة لأسئلة الفضاء العمومي المغربي: من يملك حق تعريفه؟ الدولة التي تنظّمه، أم المجتمع الذي يُعيد إنتاجه وفق حاجاته؟
 هكذا يغدو المقهى فضاءً لتجريب الذات المغربية في علاقتها بالزمن والمدينة والآخر، ولإعادة ترتيب التوازن بين الكلام والفعل، بين الحلم والانتظار، بين التهميش والمقاومة الرمزيّة.
ثانيًا: الرصيف كمسرحٍ للمواجهة الصامتة
 إذا كان المقهى مختبرًا للهوية الرمزية، فإنّ الرصيف يشكّل وجهها العلني والمشهدي. إنه فضاء الحضور الجسدي في مجتمعٍ لا يعترف بالهامش إلا بوصفه عابرًا. على الرصيف، يتجسّد الانتظار كحالة اجتماعية دائمة، ويتحوّل الجسد إلى علامة احتجاج صامت ضد إيقاعٍ مجتمعيّ لا يشمل الجميع.
 الرصيف ليس حدًّا ماديًا فحسب، بل حدًّا أنطولوجيًا يعيد تعريف علاقة الإنسان بالمكان والاعتراف. من يقف على الرصيف لا ينتظر شيئًا محددًا، بل يختبر معنى الوجود في فضاءٍ بلا وعود. إنه كائن معلق بين أن يكون «مشاهدًا» و«مشاهَدًا»، بين الفعل والغياب. ومن هنا، يتحول الرصيف إلى منصة رمزية للمقاومة الصامتة، تُنتَج فيها نظرات وتفاعلات يومية تختزن طبقات من الدلالة والتمرد المكبوت.
 الشباب الذين يتقاسمون الرصيف يتبادلون القصص والنكات عن فشلهم في العمل أو الحب، فيحولون الهامش إلى مساحة اعتراف جماعي غير رسمي. فالجلوس على الرصيف هو إعلان مزدوج: فشل الدولة في احتضانهم، وقدرتهم على إعادة إنتاج الفضاء العام بشروطهم الخاصة. في أحد وجوهه، هو فعل مقاومة ضد نظام رمزيّ يقيس القيمة بالإنتاج، وضد واقعٍ يجرّد الإنسان من الاعتراف.
 إنّ الرصيف يكشف عن مفارقة الوعي المغربي المعاصر: الوعي بالانتماء الناقص والرغبة المؤجلة في الاعتراف. إنه ليس فراغًا عمرانيًا، بل نصّ مفتوح يُعاد تأويله كل يوم بوجوه جديدة. من هنا، يدعو فهم الرصيف أنثروبولوجيًا إلى إعادة التفكير في الفضاء العام المغربي من منظورٍ إنسانيّ يعترف بما يفعله الناس في أمكنتهم، لا بما تُحدّده الخرائط لهم.
 وهكذا، يتقاطع المقهى والرصيف كفضاءين بديلين يعبّران عن بحث الذات المغربية عن معنى الوجود في غياب الفعل المؤسسي، وعن سعيها إلى إنتاج مواطنة رمزية من أسفل، عبر لغة الحياة اليومية وأساليب التفاوض الصامت مع السلطة والمجتمع.
ثالثًا: العالم الافتراضي والفضاء الرقمي: وهم الهروب إلى الأمام
 في امتداد المقهى والرصيف، يظهر الفضاء الرقمي كبعدٍ ثالث للفضاءات البديلة، لكنه أكثر مراوغة وتعقيدًا. إنه فضاء بلا جغرافيا، يتوهّم فيه الفرد التحرر من الواقع، بينما يُعاد إنتاج آلياته داخله بلغة جديدة. فالهاتف الذكي صار أداة للتعويض الرمزي، تُمارَس من خلاله أشكال جديدة من الوجود الافتراضي والتعبير عن الذات، لكنها تخفي خلفها عطالة اجتماعية ورغبة في الاعتراف المفقود.
 يتحوّل العالم الرقمي إلى مرآة هشاشة الوعي الجمعي، حيث يُقاس الوجود بعدد المشاهدات والإعجابات، وتُستبدل المعاني بالمشاهد، والفعل بالفرجة. فـ«الحرقة الرقمية»؛ الحلم بالهجرة عبر الوسائط؛ ليست سوى امتداد رمزي لـ«الحرقة الواقعية»، كلاهما هروب من انسداد الأفق نحو يوتوبيا متخيلة.
 من منظورٍ سوسيو–أنثروبولوجي، يعكس هذا الانغماس الرقمي تحوّل الانتماء من المحلي إلى الشبكي، ومن العلاقات المادية إلى التفاعلات الرمزية المجردة. لكنه لا يعني تحرّر الإنسان، بل إعادة إنتاج أشكال الهيمنة والمراقبة الناعمة، حيث يُستدرج الفرد إلى المشاركة في إنتاج صورته وتغريب وعيه.
 هكذا يصبح الفضاء الرقمي أداة مزدوجة: يمنح التعبير ويُكرّس التبعية، يتيح الحلم ويعيد إنتاج العجز. إنه امتداد رمزي للمقهى والرصيف، حيث تُمارَس الطقوس نفسها من خلال النقاش، السخرية والنقد؛ لكن في غياب الجسد واللغة الحيّة. الحضور هنا مجرد حضور افتراضي، والكلام بلا أثر، والمشاركة بلا أثر فعلي في الواقع.
 الفضاء الرقمي، إذن، ليس قطيعة مع الفضاءات الواقعية، بل امتدادٌ ناعم للهامشية في بعدٍ جديد، أكثر خفاءً. فبدل أن يحرّر الإنسان من الانسداد، يعيد إدخاله في دائرة الفرجة والاستهلاك الرمزي، حيث يصبح الزمن الرقمي بديلًا عن الفعل، والمشاهدة عن المشاركة.
* خلاصة: نحو أنثروبولوجيا للمعنى في زمن الانتظار
 تشكل المقهى والرصيف والعالم الرقمي ثلاثية الفضاءات البديلة التي تُعيد اليوم رسم جغرافيا المعنى في المغرب. فهي فضاءات تعويض ومقاومة في آنٍ واحد؛ تحاول أن تمنح الأفراد إمكانية العيش الرمزي في ظل الفراغ المؤسسي، لكنها تكشف أيضًا عن حدود هذا التعويض وعن هشاشة المواطنة الرمزية.
 من خلال هذه الفضاءات، يتفاوض الإنسان المغربي مع واقعه، يصنع لغته، ويمارس حضوره بوسائل رمزية هادئة. إنها مواطنة من نوعٍ جديد تُمارس عبر الجسد واللغة والرمز والصورة، وتشكّل نسيج الاجتماع المغربي في زمن التحولات المتسارعة.
 وبالتّالي، لا يمكن فهم الحاضر المغربي إلا بالإصغاء إلى تلك المساحات الصامتة التي تُمارس فيها الحياة اليوميّة بوصفها فعلًا رمزيًا ومقاومة ناعمة لإعادة كتابة الاجتماع المغربي من جديد.

* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...