سامح راشد
باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط
تقدّم السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية نموذجاً مثالياً للغموض في صنع القرار وصعوبة فهم حيثياته، فضلاً عن محدودية الخيارات المتاحة، بين سيء وأسوأ. ورغم أن التظاهرات (والوقفات) قبالة سفارات مصرية عدّة تزامنت بشكل مريب يَشي بأنها جزء من حملة منظّمة، اكتفت القاهرة بالردّ عبر بيان من وزارة الخارجية، نفت فيه انفراد مصر بالتحكّم في معبر رفح، وبالتالي مسؤوليتها حصراً عن المأساة الإنسانية في غزّة. ورغم صحّة موقف مصر، وحقيقة أن معبر رفح مغلق من الجهة المقابلة التي تحتلها إسرائيل، فإن هذا التوضيح لم يصل إلى الجمهور المُستهدَف بتلك الانتقادات، وهو الرأي العام، سواء المصري أو العربي أو العالمي، واكتفى الإعلام المصري باستدعاء المتّهم الجاهز دائماً، فراح يؤكّد ويعيد أن جماعة الإخوان المسلمين وراء تلك التظاهرات والوقفات، بما فيها التي جرت قبالة السفارة المصرية في تلّ أبيب. وعزفت الأبواق الإعلامية المصرية نغمات متّسقة على وتر واحد، هو خيانة “الإخوان” وعمالتهم لإسرائيل.
وفيما تكتظّ وسائل التواصل الاجتماعي بالمشاهد المؤلمة لأطفال وشيوخ يموتون جوعاً، أو تحت قصف إسرائيلي وحشي لأماكن الإيواء ومراكز تلقي المساعدات، لم تعرض مصر ولو مرّة واحدة المشهد في الجانب الآخر من معبر رفح، ولم تضع أمام الرأي العا10م عمليات القصف التي تباشرها إسرائيل لكلّ مقوّمات الحياة في غزّة. وبينما تحرص مصر على تمرير سياساتها وتحسين صورتها في دوائر السياسة الأميركية، وتوظّف لهذا الغرض شركات علاقات عامة لحشد مواقفَ مؤيّدة لدى نخبة القرار الأميركي، لا تولي القدر ذاته من الاهتمام ببقية دول العالم، لا في النطاق الرسمي، ولا على مستوى الرأي العام، بما في ذلك الرأي العام المصري الداخلي.
من أشدّ نقاط ضعف سياسات مصر تجاه غزّة، والقضية الفلسطينية ككلّ، الإخفاق في تسويق تلك السياسات والتحرّكات، والعجز عن إقناع الآخرين بصحّة مواقفها أو على الأقلّ بأنها تعمل في حدود الممكن والمتاح. ربّما تقف وراء ذلك التحفظّ رغبة النظام الحاكم في تجنّب إثارة الرأي العام الداخلي، وربّما ليتجنّب استفزاز واشنطن وتل أبيب لحساب بقائه واستمراره. إلا أن المحصلة النهائية تكون دائماً المزيد من الإحراج داخلياً، بالتوازي مع تمادي إسرائيل في توحّشها وتبجّحها. وهو ما يُظهِر النظام المصري متواطئاً أو جباناً في أفضل التفسيرات. ويساهم في هذا الانطباع المنطقي ما يطرحه الإعلام المصري الموجّه، بلسان من يوصفون بـ”خبراء عسكريين”، بل أيضاً بلسان مسؤولين رسميين، من أن أي تحرّك مصري بشأن معبر رفح سيفضي إلى حرب مع إسرائيل. إن مجرّد إعلان الخشية من مواجهة إسرائيل يبعث رسالة شديدة السلبية إلى المصريين والإسرائيليين معاً، بأن القاهرة غير مستعدّة أو غير راغبة، ليس في مواجهة فقط، بل ولا بممارسة ضغط فعلي لوقف الجريمة الإنسانية بحقّ الفلسطينيين وإبادتهم.
ويعزّز من تلك الصورة السيئة إحجام القاهرة عن تبيان ما تسمّيها “جهوداً دؤوبة ومكثفة” لوقف الحرب في غزّة. ولا تكشف عمّا تكرّره كثيراً حول اتصالات وتحرّكات لمنع تهجير فلسطينيي غزّة. فهي ربما تقوم فعلياً بشيء ما؛ لكن لا ملامح واضحة له، ولا نتائج ملموسة تؤكّده، فيما مجريات الأمور في الأرض تشير إلى العكس تماماً.
تمرّ القضية الفلسطينية بمنعطف تاريخي مفصلي، وكما تعمل مصر على الوفاء بدورها تجاه الفلسطينيين وتجاه أمنها وسيادتها، عليها أيضاً التفاعل مع الرأي العام داخلياً وخارجياً بديناميكية وجرأة، فالمكاشفة والصراحة ضروريتان لفضح الدولة العبرية التي تقلب الحقائق، مدعومة بإعلام عالمي يعمى عن رؤية فظائعها، ووسائط تواصل قابلة للحشد والتوجيه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف