عزلة الذات في مرآة الترف… قراءة في رواية «ترف الانكفاء»

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

زينب محمد عبد الحميد
كاتبة ومترجمة مصرية

 

 

تأسس السرد في رواية «ترف الانكفاء» للكاتب وائل الحفظي على مقولة وجودية كاشفة تنطلق من عنوانها ذاته، إذ تحيلنا لفظة «الترف» إلى امتياز لا يتوفر لكل الناس، بينما يُفترض بـ»الانكفاء» أن يكون موقفاً اختيارياً من العالم، وبالتالي تغدو مزاوجة اللفظتين موقفا مسبقا حدده العنوان بحيث يصير الابتعاد عن الجماعة والانكفاء على الذات ترفا لن يتاح بالضرورة إلا لشخصيات بعينها، وربما نتصور بطلا يحقق هذا الترف بصورة أو أخرى، غير أن بطل الرواية ينقض هذا الافتراض مبكراً، مؤكداً أن اكتئابه يحول دون تمتع الذات بهذه الرفاهية، لكنه يسلك ترفا بديلا يفضي به إلى توظيف تصورات ما بعد الانكفاء، وتحويلها إلى قوانين جديدة تحكم علاقته وتصوراته عن محيطه.
تضع الحكاية منذ بدايتها القارئ في مأزق؛ حول ما إذا كانت العزلة فعلاً إرادياً، أم حتمية وجودية، فتُسائل تشكلات الإنسان المعاصر في ظل هيمنة التقنية وتضاؤل المعنى. ويوظف الراوي صوته الداخلي لرصد هذا «الانهيار الهادئ» للعلاقات والوظائف والأدوار، بما يشبه حالة الاغتراب الحديثة التي وصفها إريك فروم بأنها فقدان الإنسان ذاته، في مجتمع يحوّله إلى «شيء من بين أشياء»، أو ما يشبه ما عبّر عنه هيدغر بأن الإنسان في عالم التقنية يفقد أصالته (authenticity) ويذوب في القطيع. أما البطل فلا يستطيع التماهي مع الذوبان الآمن مع القطيع، ما يدفعه إلى الانزلاق في اكتئاب مزمن، وتنعكس حالة البطل النفسية في سرد العمل؛ حيث تشظيه بين الحاضر الذي يعيشه البطل والاسترجاع الذي يعيد إلى ذاكرته من حين لآخر طبيعته المفقودة.
يستعين بطل الرواية في استرجاعاته بزمنين، بحثا عن فجوات تُفسر وجوده الراهن. كما ينفي عن نفسه الخفة، أو «الترف» حين يعيد إلى ذهنه مقولات علم النفس، كما يستدعي «هرم ماسلو للاحتياجات»، في محاولة لفهم موقعه ضمن هذا البناء، لكنه يبدو عالقا عند الحاجات الأساسية، عاجزا عن الصعود نحو تحقيق الذات، أو تجاوز شرطه المأزوم. يدمج الراوي سرده الذاتي بمفاهيم مثل «الاحتراق الإنساني»، أو ما يُعرف بـBurnout، وهي فكرة تشير إلى الانهيار تحت ضغط العمل واللا جدوى، فيسأل بمرارة: «هل عليّ أن أحترق أنا مقابل أن أوفر مالاً؟» ويحيلنا هذا التساؤل إلى المأزق الوجودي لإنسان العصر الحديث، الذي لم يعد يملك رفاهية الانكفاء، ويفتقد كذلك معنى الانخراط وغايته، ليدور في دوائر التكرار والعادة والعرف، لا الغاية والتحقق.
يعتمد السرد تقاطعاً زمنياً دينامياً، إذ يعود الراوي إلى طفولته، التي هي مرآة للوعي المبكر بعالمه؛ فيسترجع لحظة موت الأم، حيث تكشف الرواية عن عطب مبكر في التعبير عن الألم، حين «نسي أن يبكي» في أشد لحظات الألم، ما يشير إلى كبتٍ عاطفي مبكر وطويل الأمد، ساعد في تشكل شخصية البطل، الذي لا يقدر أن يعيش ما يسميه من جديد «ترفا»، رغم الاكتئاب الذي يعانيه. وإن دققنا النظر في شخصية الأم، فعلى الرغم من أميتها؛ فإنها تمثل في نظر البطل «معرفة الحياة»، التي يعني فقدانها التخبط في إدراك المعنى بعد ذلك. أما شخصية الأب فتمثل الرؤية المتشككة في المجتمع الساخر من مظاهره الاجتماعية الكاذبة، فقد قال لابنه: «إنهم أناس يتملقون للأحياء على حساب الأموات». وهذه المفارقة بين الأم العفوية والأب الساخر، تشكل مرآة لتمزق الراوي بين الحنين إلى فهم المعنى والشك في مظاهر الحياة.
تتعمق بعد ذلك أفكار البطل الوجودية في علاقته بجاره العجوز، الذي يشكل نموذجاً للموت القريب. فلا يكتفي الراوي بالمراقبة، بل يسعى إلى استشعار «الوجع» في بكاء الأرملة، وكأن الألم نفسه شرط ضروري ليشعر بوجود الآخر. يقول: «أردت أن أتأكد من أن العجوز ما زالت تحت وطأة الفقد»، وهي جملة تُفصح عن محاولة الراوي اختبار «حقيقة» الفقد في زمن يتآكل فيه المعنى. يقدم البطل رؤية سوسيولوجية مغلفة بالسخرية في محاولة منه لتضمين معنى جديد للحياة، حيث يوازن بين الإنسان والحيوان، ويجد تشابها خاصا مع حيوان الكسلان، في استعارة توحي بالخمول، والانسحاب، واللاعنف، ثم يضيف إلى نزوعه إلى العودة إلى «غرائزه الأولى/الحيوانية» سخرية من شبكات التسويق الرقمي، حين يصمم أشكالاً ساخرة يطبعها على أردية تُباع إلكترونيا، في تجسيد عملي لفكرة «رأس المال الرمزي» الذي يلتهم حتى السخرية من عالم الحداثة ذاته.
وتُعد حالة الاكتئاب المحور، الذي تدور حوله التجربة السردية، فيشبّه الراوي/البطل نفسه بـ»إنسان الكهف»، وكأن التقنية لم تُفلح في إخراجه من بدائيته النفسية، بل كرّست وحدته. ومع ظهور إعلان لتطبيق علاجي رقمي، يدخل البطل تجربة تحليل نفسي تبدأ من فرضية الانخراط في المحاولة وهجر الترف. وفي هذا السياق، تقدم الرواية ما يُشبه «مفارقة علاجية»، حيث يتحول البطل إلى «مدرّب على الحياة» بينما تتقمص الطبيبة المعالجة دور من تحتاج للعلاج. هذا التبادل في الأدوار يذكّر بطرح لاكان حول علاقة المريض بالآخر، حيث تصبح الذات مرآة للآخر، والعلاج مسرحاً لاعترافات متبادلة لا تؤدي بالضرورة إلى الشفاء. وتُثير العلاقة بين البطل والطبيبة أسئلة حول حدود الأخلاق، خاصة بعد أن يقتل جارته العجوز، ثم يُفصح عن جرمه للطبيبة، التي تبلّغ الشرطة، إلا أن البطل يعتبر هذا التصرف «خيانة» يتأمل معناها عن طريق إعادة طرحها في معجمه المريض، الذي يجد في الموت خلاصا، وفي نفسه القاتلة مخلصا من سخافات العالم وجنونه. وتأتي المفارقة الكبرى حين يشعر في نهاية الرواية بأنه «سَجن العالم» بطريقة أو أخرى بينما بقي «حراً»، وهي مفارقة تعيدنا إلى مقولة دوستويفسكي: «أحياناً، لا تغدو الحرية الحقيقية في أن تكون خارج السجن بل داخله». هذه النهاية تعيدنا إلى ثنائية الحرية والقيد، الواقع والخيال، المسؤولية والانكفاء، وهي أسئلة لا تُجيب عنها الرواية بشكل مباشر بقدر ما تطرحها ضمن تجربة سردية ذات طابع تأملي نفسي وساخر في آن.
في «ترف الانكفاء»، لا يُقدّم وائل الحفظي رواية أحداث بقدر ما يصوغ سرداً لذات مأزومة، تتأرجح بين الاغتراب والرغبة في الانخراط، بين الحاجة للعلاج والقدرة على الاستبصار، بين الحياة والموت. إنها رواية تُعيد طرح سؤال «الذات» في عصر تتآكل فيه الحدود بين الواقع والافتراضي، بين الحياة النفسية والعالم الرقمي. ومن خلال صوت سردي داخلي ساخر، تأملي، وفي أحيان كثيرة فلسفي، ينجح الحفظي في بناء نص يُحاور قضايا الإنسان المعاصر، دون أن يفقد حسّه الشعري أو تواصله مع عمق التجربة الإنسانية. وأخيرا حازت الرواية (الصادرة عن دار الآداب) جائزة أسماء صدّيق للرواية الأولى في دورتها الثالثة.

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...