“إستراتيجية السمكة القزمة”: حين تتحوّل الرواية إلى مرآة دبلوماسية لزمن مغربي متحوّل

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في ايطاليا

 

 

في عمله الروائي الجديد “إستراتيجية السمكة القزمة”، لا يكتفي الإعلامي المغربي زهير الوسيني بتقديم رواية تاريخية كلاسيكية، بل يمضي بعيدًا في تشريح أحد أكثر المفاصل دقة في تاريخ المغرب الحديث، متسلحًا بأدوات السرد الأدبي، وبدقة الصحفي المحترف، وبعين الباحث المتمرس في قراءة ما وراء الوثائق والأحداث.

نُشرت الرواية حديثًا باللغة الإيطالية، ومن المنتظر أن ترى النور بلغات أخرى، من بينها العربية، الفرنسية، والإسبانية، في تأكيد على البُعد الكوني لقضية محلية-عالمية، تدور أحداثها بين الأزقة القديمة لمدينة طنجة في نهايات القرن التاسع عشر.

الرواية تنطلق من واقعة تاريخية واقعية: اغتيال مواطن إيطالي في طنجة عام 1890. حادث يبدو عرضيًا للوهلة الأولى، لكنه سرعان ما يتحوّل، بفضل البنية الروائية المحكمة، إلى مدخل عميق لفهم تعقيدات المشهد السياسي المغربي عشية فرض الحماية، حين كانت القوى الكبرى تتربص بالمغرب من بوابة الامتيازات القنصلية والتحالفات الخفية.

زهير الوسيني لا يعيد فقط ترتيب الأحداث؛ بل يعيد تفكيكها وتركيبها وفق رؤية أدبية تستدعي التاريخ لا بوصفه وثيقة من الماضي، بل كأداة استبصار للحاضر. فـ”السمكة القزمة” ليست مجرد استعارة جمالية، بل موقف سياسي-ثقافي: كيف تنجو الشعوب الصغيرة، مثل المغرب آنذاك، من بين أنياب القوى الاستعمارية الكبرى التي تتصارع على مصيرها دون أن تسألها رأيًا؟

عبر شخصيات متعددة—بين دبلوماسيين، جواسيس، ساسة محليين، وأجانب—يتقاطع الواقع بالخيال، وتصبح مدينة طنجة فضاءً روائيًا حيًا يعجّ بالمؤامرات والمداولات والرهانات، حيث لا تُدار الحروب بالبندقية فقط، بل عبر الحبر والختم والمرسوم السري.

ويبدو أن اختيار الوسيني لوثيقة أصلية—رسالة السلطان مولاي الحسن الأول إلى باشا طنجة—لم يكن خيارًا تقنيًا فقط، بل علامة على الوفاء للمعمار الحقيقي للرواية: هذا التوازن الحرج بين التوثيق والخيال، بين وفاء المؤرخ وجرأة الروائي.

“إستراتيجية السمكة القزمة” ليست مجرد رواية، بل درس في الكتابة العابرة للأنواع، حيث يلتقي الأدب بالتاريخ، وتصبح الرواية وسيلة لفهم أزمنة التحوّل، بل وربما لتفسير ما نعيشه اليوم من تحولات في ميزان القوى العالمي.

زهير الوسيني، الذي عرفه الجمهور العربي والإيطالي من خلال شاشات التلفزيون وعموده الصحفي، يُفاجئ القارئ هنا بوجه جديد: وجه الروائي المتأمل، الذي لا يكتب من أجل الحكي فقط، بل من أجل الفهم، والمساءلة، وإثارة الأسئلة.

إنها رواية تستحق القراءة، لا لأنها تتحدث عن الماضي، بل لأنها تمسك بتلابيب الحاضر، وتهمس في أذن المستقبل.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...