الكاتبة التونسية منية العبيدي :الفضاء الأمومي في مجموعة *طقوس للياسمين*

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

رياض خليف(*)

يشكل الفضاء الأمومي منبعا من منابع التخييل الشعري، فالشعر يمتص الذاكرة
ويعود إلى المكان الأول.. مكان مسقط الرأس والدروس الأولى واليوميات الأولى، ذلك المكان الذي كثيرا ما تجبرنا الأيام على هجره والابتعاد عنه،
ولكنه يظل راسخا في الكيان، فكثيرا ما كان عالقا بذات الشاعر ونصوصه، فهو يظهر فضاء باعثا للحياة وحافرا في أعماق الوجدان، ويشكل وجها من وجوه الإنشائية، ولعل هذا يحيلنا إلى غاستون بلاشير ودراسته حول الفضاء الروائي، التي اهتم فيها بجماليات الفضاء الأمومي الحميمي فهو يعتبر «أن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال، لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز. إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية». وهو يعد «البيت موطن شعرية فهو حافظ الذاكرة، الكثير من ذكرياتنا محفوظة بفضل البيت».
وقد شكلت هذه الذاكرة مرجعا تخييليا تنحدر منه الصور الشعرية وتتداعى، وقد عدد بلاشير نماذج مختلفة من حضور هذا الفضاء الأمومي.

هذا الفضاء الأمومي الشاسع بأحلامه وانكساراته، يعم المدونة الشعرية العربية التي كثيرا ما تبدو كتابة عودة إلى الذات والذاكرة، وأشياء الطفولة، وإذا كانت هذه العودة تحمل تعبيرات مختلفة مثل، الحنين والشوق، فإنها تشكل في عصرنا مشاكسة للكتابة الشعرية المنهمكة في التجريب والتركيب، وتلوينا لها بالمحسوس والأكثر وضوحا في ذهنية المتقبل. ولعلنا نلمح الكثير من مظاهر الالتجاء إلى هذا الفضاء الحميمي الأمومي في المجموعة الشعرية «طقوس للياسمين… للماء والتراب» لمنية العبيدي.
ولعل هذا العنوان يحيلنا على هذا اللون الشعري، وهو ما توحي به لفظة طقوس، فهي كلمة مثقلة بالإيحاءات، فكلما حضرت، غاصت في العادات والتقاليد

وغاصت في ذاكرة الحياة.. ذاكرة الماء والتراب، التي تحيل على الأرض والموطن، ولعلها تقترب من صورة مدينة الشاعرة. ولعلنا نستعيد في هذا المجال مقولة الشاعر سمير السحيمي، في تقديمه للعمل متسائلا «هل لهذا العنوان صلة وثقى بمدينة الكاف موطن الشاعرة؟ صلة برائحة المكان في عبق روحها بالماء الذي يصف به المكان وتتجدد به الذات ولغتها، بالتراب الذي يختزل خربشات الأنامل في أرض تقترب منا وتعلو فتشمخ».
ولعل قصيدة «أماه… وطني» التي تتصدر هذا العمل تشكل فضاء نصيا يجتاحه هذا البعد الأموي، والاحتفاء بمسقط الرأس. فصورها الشعرية تتشكل من ذاكرة بيت ومدينة…
البيت:

يحضر البيت في هذا اللون من التصوير الشعري بشخوصه وأشيائه وأركانه ومساربه. وهو ما نجد له صدى في استعادة منية العبيدي لصورة الأم:
«أماه مدي شالك الأخضر
طريقا إلى البيت في السفح
ودملجك هدية العرس وخاتم الفضة
وخلاخل جدتي الأولى»
لم تخل هذه الاستعادة من حضور أشياء البيت وتفاصيل الحياة، وهي تشكل نافذة أنثروبولوجية على اللباس وطقوس الاحتفال، وأدوات العمل، مثلما تبين ذلك أمثلة أخرى.
الجغرافيا والتاريخ:
أما الوجه الثاني من هذا الحضور، فيتعلق بحضور الجغرافي والتاريخي، فالشاعرة تكتب ملامح المكان وطبيعته وتحتفي بجباله وأشجاره، وتجعلها مكونا من مكونات الصور الشعرية، فإذا بها تستحضر الجبال والصنوبر والإكليل والقمح والزياتين واللوز وغيرها:
«أراك يا أمي والجبل العالي والكاف
وحقول القمح أمواجا
بكفيك ترتطم
وعلى خصرك زيتونة..»
فالشاعرة ترسم بهذه الطبيعة المحلية، مشهدا شعريا مستمدا من جغرافيا المكان ولكنها لا تهمل التاريخي والأنثروبولوجي، فنجد إشارات كثيرة تصب في هذا المجال.
الاجتماعي:
أما الوجه الثالث لكتابة هذا الفضاء، فهو وجه اجتماعي فكتابة الفضاء الحميمي هي أيضا كتابة تنهل من الاجتماعي، فترسم حال المجتمع وواقعه ومعاناته وطبيعة حياته، فتمتزج الصور الشعرية بالجوع والبرد والفقر، رسما لواقع هذا المكان ومعاناة أهله. فتكتب عن العمال:
وسواعد ممشوقة سمر تشتهي الخبز
وتحترف الصمت والمعول
وتكتب عن النسوة وهن يناضلن من أجل الحياة في ظروف بيئية سيئة:
فثلج الكاف لا يرحم
وفي الوادي أصابع النسوة ترتجف
بين حبات زيتونه الأسود
ونار خافتة بين أشجاره
وذكرى دفء فناجين الشاي»
وتكتب الشاعرة عن الطفولة المعذبة في هذه الربوع… طفولة الفقر:
«وذاك الطفل يا أمي ترى كم ربيعا على صدره؟
ذلك الطفل يا أمي كان في الوادي
وبندقية الماء لعبته
يرش بنات الحي فيضحكن
ويرقص كما الأشجار يا أمي
ذاك الطفل صار ينفث نارا
يقول كلاما مكرورا
صار يرى الكل أعداء وأشرار»

فكتابة الفضاء الحميمي تنحرف في هذا المجال عن بعدها النفسي المألوف،وتصبح لا مجرد كتابة حنين وتذكر، ولا مكونا جماليا فحسب، بل تغدو خطابا احتجاجيا مطلا على واقع اجتماعي وممتزج بأحاسيس الغبن، التي تراود متساكني الجهات التي خلفها قطار التنمية في البلاد.
ولعلنا نخلص في الختام إلى أن الشاعرة تتخذ من الفضاء الأمومي بوجهيه، بيتا وموطنا مرجعا تنهل منه، فهو موطن صورها الشعرية وأحاسيسها. ولعلها بذلك تجعل من الخوض في أسئلة الفضاء الأمومي في القصيدة العربية مبحثا جديرا بالتفكير والبحث. ولعله يشكل محطة من محطات التقاء السيرذاتي المرجعي بالشعري الجمالي.

 كاتب تونسي(*)

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...