الناقد العراقي سمير الخليل يرصد المفاهيم الثقافية المتداولة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

*فاضل عبود التميمي

 

كانت عناية العرب بالمصطلح النقدي قديمة قدم رغبتهم في التوثيق والتأليف، وملاحقة الظواهر الأدبية، فقد وقفوا عند الألفاظ التي أرادوا بها؛ المصطلحات التي هي في حقيقة أمرها اتفاق عام على إطلاق تسمية على شيء مادي أو معنوي معيّن، تكون صيغة تحيل على دلالة ثابتة سمّيت في ما بعد مصطلحا، وهذا يعني أنّ المصطلح لفظ، أو تركيب مستقرّ المعنى يستعمل بوضوح للدلالة على صنعة ما، أو ثقافة، أو إجراء، أو مهنة، أو ظاهرة لها علاقة بحياة الإنسان.

دعت الضرورات الحياتية إلى العناية بالمصطلح في مختلف العلوم والفنون، والآداب والحرف، والنشاطات الإنسانية، فكان لا بدّ لأهل كلّ علم وممارسة ومهنة وثقافة، من أن يستعملوا ألفاظا خاصة بهم لا بأس من معرفة الآخرين بها شرط شيوعها، وقد اعتنى النقادُ العربُ الأوائلُ بالمصطلح بعد أن نشطت الحركة العلمية والفكرية، إبّان العصر العباسي، وظهرت الترجمة، فاحتاج المؤلّفون ألفاظا تدلُّ على اشتغالهم الثقافي والمعرفي، وهذا ما تمثّله العصر الحديث أيضا، إذ ظهرت عند العرب معجمات البلاغة، والنقد القديم والحديث، ومعجمات الدراسات الأسلوبيّة، والسردية، واللسانيات، ومعجمات الشعراء، وهذه المعجمات قليلة جدّا قياسا بتأريخ النقد والثقافة عند العرب، وعدد المشتغلين في حقول الفكر، وربما يعود ذلك إلى قلّة ما محقّق من متون نقدية قديمة، وغياب النوايا الخاصة بدراسة المصطلح النقدي القديم والحديث، وعزوف المعاصرين عن صناعة المعجم بسبب صعوبة الاشتغال به، وكانت تلك المعجمات قد صدرت عن مؤسسات جامعية أكاديمية، ودور نشر خاصة، وربما كان قسم منها في أصوله رسائل، أو أطاريح قدمت إلى الجامعات العربية أو الغربية لنيل شهادة ما، وهذا يعني ـ في ما أرى- ضعفا في التواصل مع المصطلح إنتاجا وتقبلا.

مناسبة المقدمة السابقة صدور الطبعة الثانية من «دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي» للناقد العراقي سمير الخليل عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2022 بعنوان مواز: «إضاءة توثيقية للمفاهيم الثقافية المتداولة» أسهم في شرح العنوان الرئيس وتفسيره، وبحلة جديدة، وحجم تجاوز (669) صفحة من القطع الكبير، محافظا على عنوانه الأصل. وقبل أن أدخل في تفصيل ما يحيط هذه الطبعة الجديدة يجدر بي أن أتساءل: لم اعتمد المؤلف لفظ (دليل) بدلا من معجم؟ تشير مقدمة الدليل بطبعته الثانية إلى أن المؤلف رتّب المصطلحات على الحروف الهجائية، وعنونه بـ(دليل)، ولم يسمه (معجما) لأنه وثّق المصطلحات المهمة في صفحات متعددة لا يتحملها معجم، فضلا عن ذلك فإنّ إهمال الجذر اللغوي للمصطلح، وهو ما اعتمده المؤلّف في جمع المصطلحات وتبويبها والتعليق عليها، هو سبب آخر دعا الناقد لأن يُسمي صناعته دليلا لا معجما؛ لأن من شروط المعجم المعروفة البحث في الجذر اللغوي للمصطلح قبل البدء بالتعريف به، و(الدليل) الذي نحن بصدد الحديث عنه دلّ القارئ وأرشده إلى مظان نقدية لها صلة بالدراسات الثقافيّة، والنقد الثقافي لأنه وثّق المصطلحات المهمة في صفحات ليست قليلة لا يتحمّلها متن المعجم، وله الحق في ذلك.

كانت الحاجة ماسّة إلى إصدار معجم متخصص بمصطلحات الدراسات الثقافيّة، والنقد الثقافي، وهي حاجة أكّدها الإقبال المتزايد من النقّاد العرب، والباحثين، وغيرهم للكتابة في الدراسات الثقافيّة، والنقد الثقافي، ولاسيّما بعد أن صار الإقبال على تلك الدراسات، وذلك النقد وجها من وجوه الدرس الجامعي والثقافي الحديث في أرجاء الوطن العربي الكبير، فبعد ان كُسر أفق الدرس النقدي التقليدي يوم تبنّى النقد المخالف أطروحات الدراسات الثقافيّة، والنقد الثقافي في الثمانينيات من القرن العشرين، حين أصدر عبد الله الغذّامي كتابه الرائد «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية» وأعلن فيه بصريح العبارة انتماءه إلى هذا الشكل الجديد من النشاط الثقافي، تنظيرا وإجراء، إيمانا منه بأن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف الخلل الثقافي، حين دعا صراحة إلى إعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه ثمّ تبعه جمعٌ من النقاد والدارسين، الذين لا مجال لذكر أسمائهم، ومؤلّفاتهم في هذا المقام، من هنا صارت الحاجة إلى متن اصطلاحيّ يعنى بمصطلحات القراءات الثقافيّة الجديدة.

إن الحياة الأدبية الجديدة تأثرت بما حولها من ثقافات، ووسائل اتصال، ومنهجيات حديثة أعطت الناقد: الباحث في داخل الأسوار الجامعية، وفي خارجها فرصة استعمال المصطلح المعاصر، والتدقيق في ماهيته، وحدّه، ووسائل اتصاله بالنصوص، فضلا عن مدلوله، وهنا ظهرت المشكلة على حقيقتها؛ فقسم من المصطلحات جديد كلّ الجدة على الذاكرة، ولاسيّما الذاكرة الطرية المبتدئة في مشروعها الكتابي، وتلك المصطلحات إمّا معرّبة عن لغة ثانية تعوزها الدقة في الترجمة والتنظيم، والقسم الآخر منها تحوم الشكوك حول ثقافة مُعّربها، وتمكنه من اللغة الأم التي وُلد بها؛ ولهذا انقسم المعنيّون بهذه المصطلحات أقساما في فهمهم لدلالة المصطلح ومقاصده.

إن الحاجة إلى وجود معجم خاص بمصطلحات الدراسات الثقافيّة والنقد الثقافي، دفع الناقد العراقي سمير الخليل لأن يعقد العزم على تأليف (دليل) يأخذ بيد الباحث والناقد وطالب الدراسات الثقافيّة إلى مصطلحات الدراسات الثقافيّة والنقد الثقافي، ليصدر في طبعته الأولى عن دار الكتب العلمية في بيروت 2016، وهو منفتح على (156) مصطلحا حتى يتجاوز به تخبطات فهم المصطلح، وتبلبل دلالته إلى فهم علمي يتّصل ببنية الثقافة المعاصرة، وتطوّر التأليف فيها وقد دخل معارف، وآداب، وفنون تقدمت المشهد الثقافي في العالم كلّه، وهذه – الحاجة- في الأحوال جميعا لا يستطيعها إلا نفر قليل من النقّاد والباحثين ممّن عاش مخلصا لقضايا المصطلح، وتعامل معه سنوات ليست قليلة، وهذا ما تمثّل في صناعة الناقد الخليل، الذي أنجز الدليل، وقدم من قبل للمكتبة العربية عددا من المراجع التي كان أهمّ مدوناتها البحث الثقافي بشطريه المعروفين: الدرس والنقد، وعرف بهما ناقدا ثقافيا ممارسا على صفحات الجرائد والمجلات ومتون الكتب. لم يكن صنيع الناقد سمير الخليل سهلا، فقد عمد إلى منهجية تابعت مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي معا، استشعارا منه بوجود رابطة كبرى جمعت بين النشاطين، برؤى يمكن ملاحظتها جرّاء قراءة الدليل؛ فهي الخطوات البحثيّة التي اتبعها الناقد في سبيل النهوض بمتن كتابه بطبعتيه الأولى والثانية، حين تتبّع مصطلحات الدراسات الثقافية، والنقد الثقافي معا، دون أن يفصل بينها باحثا في أصولها، وجوهر فاعليّتها بقصد فهمها، وإزالة ما التبس حول نشأتها، ودلالتها كي تكون في متناول القرّاء والمعنيين، وقد تمثّلت تلك المنهجية في الخطوات الآتية:

أولا: تابع المصطلح في شكله المتداول في الثقافتين العربية والغربية، محيلا على عدد من المراجع التي أسهمت في بلورة مفهومه، وتقديمه بشكله الناضج، وهذه الإحالة أعطت الدليل مصداقية ووثوقا، فضلا عن عنايته بالاسم الإنكليزي للمصطلح.
ثانيا: عناية المؤلف بالجانب النظري المشعّ من مفهوم المصطلح، فضلا عن الجانب الإجرائي في قسم من المصطلحات الذي أسهم في تحليل ظاهرة مفهوم المصطلح في المتون النقديّة التي اطلع عليها الناقد وأثبتها.
ثالثا: اعتمد الناقد الخليل في تأليف دليله ترتيب المصطلحات بحسب الحروف الهجائيّة، وهو ترتيب متّبع يفضي إلى سهولة في البحث والتدقيق، فضلا عن جعله المصطلح الإنكليزي مقابلا للمصطلح بصيغته العربية.
رابعا: لم يعتن المؤلّف بالجذر اللغوي للمصطلح لعدم الحاجة إليه، فضلا عن أن قسما كبيرا من المصطلحات ليست عربية، ولو عمد إلى ذلك لكان الدليل معجما بصفحات أكثر.

ولا أدل على عناية الناقد بمتنه في الدليل من لجوئه إلى ناقد آخر مختصّ بالأدب الإنكليزي، أعان المؤلّف في ترجمة عدد من المصطلحات التي لم يعثر على مقابلها الإنكليزي، فضلا عن ترجمته قسما من مفاهيم المصطلحات، والتعقيب عليها أعني: المترجم والأكاديمي العراقي سمير الشيخ.

إنّ التدقيق في مقدمة الطبعة الثانية – وهي عتبة مائزة تحمل أكثر من إشارة دالّة على أهميّة الدليل، ومنهج تأليفه، ومشكلة البحث فيه – يعطي فكرة عامّة عن مجمل العمل الذي أنجزه الناقد سمير الخليل، الذي رأى – وهو على حق- أن العناية بالمصطلحات المتخصصة بالدراسات الثقافية، والنقد الثقافي تعدّ فعلا حضاريا، وثقافيا هدفها تسهيل مهمة الباحثين ورفدهم بما يحتاجون من مصطلحات، ستكون عندهم بمنزلة المفاتيح التي ابتكرها أجدادنا يوما لتسهيل الدخول إلى باحات المعرفة، والإجراء النقدي الثقافي بشقيه المعروفين، وقد سوّغ الخليل صدور دليله بحجة مهمة مؤداها أنه لم يعثر على معجم مختص في هذا المجال؛ أي مصطلحات الدراسات الثقافية، والنقد الثقافي فكان أن شمّر عن قلمه ليكون الرائد في هذا المجال.

اشتمل متن الطبعة الثانية على ما جاء في الطبعة الأولى، بعد إجراء مزيد من التعديل والإضافة على موردها، فضلا عن إفادته الكبرى من معجمين أجنبيين جديدين دخلا متن الطبعة الثانية ليزيدا من أهميتها، وشمولية مصطلحاتها هما: «مفاتيح اصطلاحيّة جديدة: معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع» طوني بينيت وآخرون، ترجمة سعيد الغانمي، المنظمة العربيّة للترجمة ـ بيروت 2010 و«معجم الدراسات الثقافية» كريس باركر، ترجمة جمال بلقاسم الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع القاهرة 2018، والإفادة من مراجع ثقافيّة أخرى احتوت على مصطلحات مهمة، فضلا عن ستين مصطلحا جديدا لم يحوها معجم عربي، أو مترجم سابق للدليل ليكون المجموع (226) مصطلحا في الدراسات الثقافية، والنقد الثقافي.

*ناقد وأكاديمي من العراق

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...