ما وراء تصريحات وزير الدفاع الأميركي عن تونس

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

 

المهدي مبروك

 

 

 

ما زالت تصريحات وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في ألمانيا في حفل للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا، عن الوضع في تونس، تثير جدلاً سياسياً وإعلامياً، وهناك سخط عميق في الأوساط الدبلوماسية التونسية من قول الوزير إنّ “حلم تونس بحكومة مستقلة أصبح في خطر”.

تسعفنا العودة إلى سنة خلت في فهم ما يحدث حالياً، حين أعلن الرئيس قيس سعيّد، في 25 يوليو/ تموز 2022، عن حلّ البرلمان، وجملة إجراءات أخرى استثنائية شكّلت، ولا شكّ، منعطفاً خطيراً في مسار الانتقال الديمقراطي الذي دعمته الولايات المتحدة بقوة، حين أثنى عليه عند انطلاقه، الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أمام الكونغرس في مناسباتٍ عديدة. وقد رأت الولايات المتحدة في الثورة التونسية إمكانيةً لوضع حد للاستعصاء الديمقراطي الذي طبع جلّ المجتمعات العربية. كانت الثورة التونسية آنذاك توحي بأنّها سلمية مدنية. لم تغدق الولايات المتحدة أموالاً طائلة لتمويل التجربة الديمقراطية، على خلاف تجارب أخرى، خصوصا في ظل المنعطفات الكبيرة التي حدثت لاحقاً، غير أنّ مهاجمة السفارة الأميركية في تونس يوم 14 سبتمبر/ أيلول 2012 شكّلت علامة فارقة عمّقتها الاغتيالات السياسية التي عرفتها البلاد في سنتي حكم الترويكا، ثم تعزّزت تلك المخاوف، بعد الفشل الذريع لبقية الثورات العربية. كانت الولايات المتحدة قد راهنت، من خلال دعمها تلك الثورات على احتواء الإسلام السياسي وترويضه. وتشهد كتابات نشرت في ما بعد، لوزيرة الخارجية الأميركية في حينه، هيلاري كلينتون، وغيرها، على هذا الرهان الاستراتيجي الذي خاب سريعاً. مع ذلك، لم تعادِ الولايات المتحدة التجربة التونسية، وظلت تراقبها، خصوصاً في ظل حالة عدم الاستقرار التي عرفتها منطقة المغرب العربي، وتحديداً الوضع الليبي والحراك الجزائري لاحقاً.

تدخلت الولايات المتحدة في حالات التوتر بشكل فعال في الكواليس الخلفية من أجل تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين، وتحدّياً بعيد الاغتيالات التي أوصلت البلاد إلى حافة الاقتتال الداخلي، كما أشير أعلاه. وتشير تقارير إعلامية وأوراق نشرتها مراكز بحوث إلى أنّ الولايات المتحدة لم تعارض إعلان الرئيس سعيّد عن حل الحكومة. وليس مستبعداً أنّها كانت على علم مسبق بما سيجري ذلك اليوم. كانت التقارير الواردة عليها من مختلف المصادر الدبلوماسية وغيرها تشير إلى حالة تفكك تدريجي للسلطة، حتى عادت البلاد غير قابلة للحكم أصلاً. تشتت السلطة، حالة الفوضى القطاعية، عجز الدولة عن ضبط الحدود، كلّها مبرّرات وذرائع لمثل ذلك الانقلاب. ربما حالة النجاح الوحيدة هي التصدّي للإرهاب وخنقه بنجاعة فائقة.

سعيّد لا يؤمن تماماً بأي مسار تشاركي، ويستفرد، بشكل صارخ، برسم مستقبل البلاد، استناداً إلى قرارات أحادية

تتالت تصريحات الوفود الديبلوماسية التي زارت تونس، ولكنها كانت ضمن مقاربة لها ثلاثة أركان: عدم معارضة ما وقع ورفض نعته بالانقلاب، دعوة الرئيس سعيّد إلى وضع خريطة طريق لإصلاحات سياسية واقتصادية عميقة، من أهمها مقاومة الفساد وتعزيز قواعد الحوكمة، ضرورة تشريكه لمختلف القوى السياسية من دون إقصاء في احترام لدولة القانون. ومع ذلك، ذهب سعيّد إلى أبعد من ذلك، في خطوات متسارعة مستكملاً مشواره، غير مكترثٍ بتلك التصريحات، بل رأى فيها تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لتونس، ومسّاً بالسيادة الوطنية التي لا يقبل بها. كان الرئيس يعتقد أنّ بلاده لا تحتاج دروساً من أحد، وأنّها ليست تلميذاً حتى تقدّم له المواعظ والدروس.

في المحطّات العديدة التي تكثفت في الأشهر التالية، وأبانت، بشكل واضح، أنّ سعيّد لا يؤمن تماماً بأي مسار تشاركي، وأنه يستفرد، بشكل صارخ، برسم مستقبل البلاد، استناداً إلى قرارات أحادية. بدت الولايات المتحدة، من خلال مسؤوليها، تعبر عن استيائها من هذه المبادرات، غير أنّها كانت تقول ذلك في منتهى اللباقة واللياقة الديبلوماسيين، ولعل تصريحات وزير الخارجية، بلينكن، تؤكّد هده “النعومة” المألوفة من الديبلوماسية الأميركية تجاه الوضع التونسي. غير أن استدعاء الرئيس التونسي السفير الأميركي، والتعبير له عن سخط بلاده تجاه المواقف الأميركية، فضلا عن البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية التونسية على إثر تصريحات للسفير، والذي لم يباشر بعد مهامه، أمام الكونغرس، وكانت القطرة التي أفاضت الكأس، خصوصاً حين عبر عن امتعاضه من الوضع الذي آلت اليه التجربة التونسية، وتصميمه، في الوقت نفسه، على إقناع السلطات هناك بضرورة الانخراط في مسار التطبيع. وكان رد وزارة الخارجية التونسية، هذه المرّة أيضاً، حادّاً لم يسبق أن عبّرت عنه مطلقاً، وبقاموس لم تعتد عليه البلاد. وترى مصادر أنّ هذا كان للتعبير عن ضيق السلطات التونسية بالتصريحات المتتالية المناهضة للمسار الحالي، خصوصا بعد نتائج الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، وبيّنت ضعف الالتفاف الشعبي حول الرئيس، على خلاف كل الادّعاءات التي سادت وهما وباطلا، علاوة على المنحى التسلطي الفردي الذي لم يعد بالإمكان إنكاره، خصوصا بعد حل المجلس الأعلى للقضاء وإعفائه قضاة عديدين… إلخ.

إنذار أخير ربما حرصت الولايات المتحدة على أنّ يسمعه سعيّد منها، غير أنّنا لسنا متأكدين من أنّ فحوى الرسالة قد يدركها أصلاً

يبدو تصريح وزير الدفاع الأميركي، أوستن، بشأن تونس، أخيراً، غريباً وخارج السياق أصلاً، فلا شيء استجد، حتى تكلف الولايات المتحدة، على غير عادتها، وزير الدفاع ليقول ما قال. كان الرجل متأكّداً أنّ “الرياح التي تجري في تونس معاكسة للديمقراطية” وأن البلاد مقبلة على محنة صعبة. وشدّد على أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن أصدقائها هناك الداعمين للديمقراطية. وجاءت هذه الأقوال، أياما قليلة بعد تصريحات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بعد الاستفتاء مباشرة، معبرا عن قلق بلاده تجاه ما يحدُث في تونس. لا شيء يوحي ظاهريا بأن شيئا ما حدث، ولكن يبدو أن الأمر معقد، يتبدى فيه ضغط الولايات المتحدة على سعيّد، من أجل استقرار سياسي وإجماع واسع، توقيا قلاقل قد تندلع، لتشمل جميع منطقة المغرب العربي في ظل ما يجري في ليبيا والجزائر، غير أنّ أنصار الرئيس، وتحديداً الأحزاب القومية واليسارية، يذهبون إلى اعتبار أنّ الولايات المتحدة ليست معنية بالديمقراطية، إنّها، على خلاف ذلك، تبتز سعيّد من أجل تمرير التطبيع مع إسرائيل، علاوة على طلبها إقامة قاعدة عسكرية أميركية في الجنوب التونسي تثير حفيظة بعض جوار تونس. مع ذلك، نعتقد أنّ إنذاراً أخيراً ربما حرصت الولايات المتحدة على أنّ يسمعه سعيّد منها، غير أنّنا لسنا متأكدين من أنّ فحوى الرسالة قد يدركها أصلاً.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...