الصفات الخبرية (1) إلزام السلفي في الصفات الخبرية بما يفهمه الرجل العربي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

 

*مصطفى الشنضيض

 

 

قول السلفي بوجوب إثبات معنى صفات الله الخبرية على ما يفهمه العربي من الكلام لأن الله تعالى قد خاطبه بلسان عربي مبين، قول صحيح، لو التزم به قائله لكان مصيبا؛ نبين ذلك فيما يلي:
فالمعهود الذهني لأفراد الكليات عند العربي، هو المصاديق المعروفة عنده في الخارج، ولا شيء آخر، لأنها إما منتزعة من شواخص (جمع شاخص) أو أعيان في الخارج، وإما مجردة كمفاهيم من مجموع انفعالات عاطفية ونفسية أو حركات ذهنية.. أي أنه لا يحضره في ذهنه إلا ما قد رآه من قبلُ بأي صيغة ما شاء ركبه أو توهمه أو تخيله.

فإذا أثبتها كما هي معلومة لديه من مرئيات، فقد وقع في التشبيه قطعا، وإن صرف الكيف عن الذهن، فإنه يكون قد صرف عنه المعنى أيضا، إذ لا يمكن إثبات معنى صفة خبرية بدون تبادر تصور مصداق لها في الخارج بدون تردد، مع حضور كيفٍ مَا في الذهن. أي أنه لا يثبت معنى للصفات الخبرية التي وصف الله بها نفسه كالحب والبغض والرضا واليد والعين والجنب من الصفات القائمة بالذات، بلا تصورِ كيفٍ؛ فيلزم منه الوقوع في التشبيه والتجسيم.

ومن أجل تفاديه، يجب تنزيه الله عن ذلك بتفويض معاني هذه الألفاظ إلى قائلها، وكذلك كيفيتها، فهو أعلم بما قال سبحانه، وهذا أتقى وأهدى وأهيا، أو صرف ظواهرها إلى أقرب تأويل يقتضيه كلام العرب.

أما معهود العربي في الذهن للقضايا الحملية والمجاز المركب، كقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ یَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟، بَلۡ یَدَاهُ ‌مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ﴾ [المائدة: 64]، فلا يفهم منها إلا أن اليهود اتهمت الله تعالى بالبخل، بقولهم ﴿یَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ ﴾، وأن الله أجابهم بأنه كريم ينفق كيف يشاء بقوله تعالى: ﴿بَلۡ یَدَاهُ ‌مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ﴾، بالاستعمال العرفي، فيكون من التكلف أن نفكك هذه المركبات والمسندات للتباحث في أجزائها وأفرادها كلمة كلمة. وكذلك، فلا يفهم العربي من قوله تعالى: ﴿ أَن تَقُولَ نَفۡسࣱ یَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِی ‌جَنۢبِ ‌ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِینَ۝٥٦﴾ [الزمر: 56]، إلا التفريط في طاعة الله، والامتثال لأوامره، وتجنب نواهيه، ولا يفهم العربي من قول الله في الحديث القدسي (وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت ‌إليه ‌باعًا)(1 ) إلا تقبل الله لعمل عبده، ومضاعفة الجزاء له، والرضا بما فعل، وإجزال المثوبة، ولا شيء من معاني الحديث يخرج عما قلناه. فلا داعي للحديث عن الشبر والذراع والباع، لأنها لم ترد إلا للمشاكلة، وتحديث الناس بما يعلمون وما يستعملون في مجتمعهم، ولا شيء أكثر.

فلا يتبادر مطلقا إلى ذهن العربي من تلك العبارات، أجزاؤُها من الألفاظ جزءا جزءا، لأنه قد خوطب بها مركبةً منتمية إلى سياق ما في موضوع ما؛ فمصاديق هذه المفردات المجردة عن الإسناد، المعروفة عنده في الخارج، إذا أثبتها العربيّ كما هي معلومة لديه منفردةً، فإنه سيقع في التشبيه والتجسيم من غير شك، علما بأن معاني هذه المفردات غير مرادة من العبارة قطعا، ولم يُسَق الكلام في تلك الآيات لأداء معانيها منفردة، وإنما سيقت لبيان الاتهام بالبخل والرد على القائل بذلك، والحسرة على التفريط في طاعة الله يوم القيامة، وسيقت في ذلك الحديث المذكور لبيان أن حسن العمل يستوجب إجزال المثوبة ومضاعفة الجزاء. ولا يمكن أن تحضر أفراد هذه التعابير المركبة كاليد والجنب والتقرب بالذراع والباع، بمفردها في ذهنه بمعزل عن السياق، وقد خوطب بها في سياق جامع ووحدةِ موضوعٍ، وهذا مما لا يجوز الاختلاف فيه.

وبهذا كان تأويل المجاز المركب في سياقه ومساقه، هو بدوره قرينة على عدم تجريد الكلمات عن بعضها بعضا لأنها ستفقد المعنى الذي سيقت له، فنقطع بأن المعنى المراد، أن اليهود قد اتهموا الله بالبخل، وأن الله أجابهم بأنه كريم ينفق كيف يشاء، وأن التفريط في طاعة الله هو المراد من السياق، وهكذا.

ومثل ما ذكرنا، قول الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: (فإذا أحببته: كنت ‌سمعه ‌الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)( 2). فلا يفهم منه أي عاقل كان، ومن أي ملة كان، عربيا كان أو أعجميا، غير التأييد والرعاية والحفظ والنصر..؛ لذلك كان التأويل إلى أقرب معنى يليق بالله تعالى، أمرا معتادا عند العرب، وكان المجاز أمرا مشتهرا لا يحتاج إلى تكلف تعليل وتدليل، أو تجشم عناء الرد والدفع. وكانت تجود به قريحتهم، وينطق به لسانهم، وتعرفه أوساطهم.

قال تاج الدين السبكي في شرحه على عقيدة ابن الحاجب، نقلا عن إتحاف السادة المتقين للزبيدي: “أهل التأويل اختلفوا على طريقين، الأول: طريق الأقدمين كابن فورك يحملها على مجازاتها الرائجة إلى الصفات الثابتة عقلا، الثاني: طريق المتأخرين، وهي التي كانت مركوزة في قلوب السلف قبل دخول العجمة برد هذه المتشابهات إلى التمثيل الذي يقصد به تصوّر المعاني العقلية بإبرازها في الصور الحسية قصدا إلى كمال البيان”(3 )اهـ.

وقال الشريف الجرجاني في شرح الموافق: “ومن كان له رسوخ قدم في علم البيان حـمل أكثر ما ذكر من الآيات والأحاديث المتشابهة على التمثيل والتصوير، وبعضها على الكناية، وبعضها على المجاز، مراعيا لجزالة المعنى وفخامته، ومجانبا عما يوجب ركاكته، فعليك بالتأمل فيها وحملها على ما يليق بها والله المستعان وعليه التكلان”( 4).
وصلى الله عليه وآله وسلم.
والحمد لله رب العالمين

(1 ) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى ﴿‌وَیُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُ﴾ [آل عمران: 28]، ﴿‌تَعۡلَمُ ‌مَا ‌فِی نَفۡسِی وَلَاۤ أَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِكَ﴾ [المائدة: 116] ، مصدر سابق،

4/384، ومسلم، ابن الحجاج، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى الله تعالى، مصدر سابق، 2/1238.
(2 ) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، مصدر سابق، 4/192.

( 3) الزبيدي، المرتضى، محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق، إتحاف السادة المتقين في إحياء علوم الدين، نشر مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، د، ط، 1994م، 2/112. وورد هذا الكلام بمزيد تفصيل وبسط في كتاب «تحرير المطالب لما تضمته عقيدة ابن الحاجب» لأبي عبد الله محمد بن أبي الفضل قاسم البكي الكومي التونسي، تحقيق نزار حمادي، نشر مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2008م، ص176-179.
(4 ) الجرجاني، الشريف، علي بن محمد، شرح المواقف لعضد الدين عبد الرحمن الإيجي، بحاشيتي السلاكوتي والجلبي، على شرح المواقف، تحقيق محمد عمر الدمياطي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1998م، 8/129.

*استاذ باحث في الشريعة والفكر الاسلامي 

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...