في سوريا: بطانة الكوارث «الفساد»

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

*هيفاء بيطار

 

 

ككثيرين فُجعت بغرق المركب الذي يضم شباباً سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، لفظهم البحر قرب شاطئ جزيرة أرواد وطرطوس، كان هؤلاء الشبان هاربين من اليأس والقهر والذل والفقر، وانسداد الأفق بمستقبل مُشرق، مُتجهين إلى إيطاليا عساهم يجدون دولة ترأف بهم وتحن عليهم أكثر من وطنهم. وكنت ُ ككثيرين مذهولة مما تعرضه علينا شاشات التلفزيون: فرط الموت استوطن الموت سوريا ولبنان (سأتكلم عن وطني سوريا) لدرجة صرنا نستغرب أن يُبحر مركب ولا يغرق! وصارت حياتنا معجونة بالموت، ولا نشاطات اجتماعية في سوريا سوى التعازي والعبارة التي توحد السوريين (الرحمة لروحه/ ها)، وصار فرط الموت يُشبه تقليب صفحات كتاب بسرعة كبيرة، موت يليه موت يليه موت، ما أن تبدأ بالحزن على عزيز مات، حتى يصفعك موت آخر ثم موت بعده.

الشباب الطامحون

صار الموت إيقاع حياتنا التي لا تُشبه الحياة في شيء سوى أن الحياة هي (شهيق وزفير فقط). وثمة أنواع للحزن لكن حزن فاجعة موت مئة شاب غرقاً حزن يُخثر المشاعر ويجعلني خرساء وأشعر بأن عقلي تخثر كأنه تخدر أو عُطب، ما نعيشه في سوريا هو الهول وهو الفاجعة التي لها جذور ضاربة في عمق الفساد، البعض كتب: البحر غدر الشبان الهاربين من جحيم حياتهم في أوطانهم، البحر لا يغدر، الغدر من المسؤولين الفاسدين الذين حولوا حياة الناس إلى جحيم، وهددوهم أن يحتجوا على حياة التعتير والظلم وانعدام الحريات وإلا لاحقتهم ( الجرائم الإلكترونية) في سوريا عليك أن تتعلم بلع كلمة (آه) مع خبزك الذي لا يؤكل، والكثيرون يموتون من تورم القلب قهراً. تعبير (مات فقع) أصبح مُعمما في كل سوريا، صحيح أن هناك تجارا سفلة يستغلون وضع الشباب الطامحين للهجرة والمستعدين لدفع الأموال الكثيرة للمهربين (أهاليهم يبيعون أثاث البيت أو مصوغات أو حتى البيت الذي يسكنونه ليعطوا المال للمهرب الذي يستغل حاجة الشباب للهجرة ومعظم هؤلاء المُهربين نصابون). كم من زوارق موت غرقت ومات المئات من بينهم أطفال صغار لم يعرفوا سوى شعور الهول والذعر في الحياة وماتوا، لكن انتعاش تجارة تهريب البشر لها أسبابها، فرأس مالها مواطنون دمر القهر والفقر والظلم أرواحهم، وارتفاع نسبة الانتحار دليل مهم، كما أن التزايد المُرعب للاكتئاب المرضي مُرعب أيضاً، انعدام الحرية وراتب الاحتقار مئة ألف ليرة، العتمة الشاملة وشح الماء وفحش غلاء الأسعار والأمراض، كل تلك العوامل هي رأس مال المُهربين، أي قهر أكبر من أن تشعر بأن وطنك الذي يُفترض أن يكون حضناً دافئاً لك هو قبرك، دمّر أحلامك وأذلك وسحق كرامتك، أحد المسؤولين الفاسدين (ثروته بمليارات الدولارات) علق ساخراً على غرق مئة شاب لفظ البحر جثثهم على شاطئ طرطوس: يا لهم من أغبياء، كيف يُغامرون ويهجرون وطنهم بقوارب سيئة وخطيرة، لم يترحم عليهم إطلاقاً بل قال عنهم أغبياء ولامهم كيف يتركون وطنهم.

المسؤولون الفاسدون عديمو الضمير لم يرف لهم جفن على فاجعة غرق المركب ولم يُعلنوا الحداد، ألم يُخثر الخوف روح الشعب السوري، شعب الطابور والبطاقة الذكية، حيث لا يمكن للسوري أن يحصل على خبزه إلا بالبطاقة الذكية، ولا على البنزين إن لم ينتظر أياماً وعيناه محدقتان في شاشة الموبايل بانتظار رسالة تحدد له موعده في استلام القليل من البنزين، والواقع الكارثي الذي يعيشه المواطن السوري يجعلنا نفكر في أن الموت أيضاً أصبح على البطاقة الذكية، فكما ينتظر الناس في طوابير الخبز نهاراً كاملاً أصبح وضعهم انتظارهم الموت في طوابير كطوابير الخبز تماماً، وقد يفرح سوري أنه لا يزال على قيد الحياة، فيما قريبه أو صديقه مات قبله، لكنه عارف أن دوره قريب ـ ربما أقرب بكثير مما يتوقع ـ الشعب السوري خثر القهر والفقر واعدام الحرية روحه، روحه ماتت.

موت الروح

والموت الحقيقي هو موت الروح، في اللاهوت المسيحي ثمة تعبير (قمصان الجسد) أي أن الجسد مثل قميص تلبسه الروح لأن الحياة في الروح، روح السوري ذبلت وانطفأت وماتت، ولم يبق سوى هيكل جسده، ما يعيشه الشعب السوري هو الهول أي قمة المأساة، يرمق بعينيه حيتان المال في قصورهم وبذخهم وسياراتهم وتبجحهم، حيث ثمن وجبة الطعام في مطاعمهم الفاخرة تفوق راتب موظف عن شهر، هؤلاء الشبان الذين ماتوا غرقاً هم في الحقيقة أموات قبل أن يموتوا ويلفظهم البحر، لأن عمرهم مهدور في انتظار حياة كريمة لن تأتي، عمرهم هو مجرد تراكم أيام وأشهر وسنوات من اللاجدوى والقهر، كم أبدع الطاهر بن جلون حين كتب روايته الرائعة: “أن ترحل”، هو يحكي عن شبان فقراء عاطلين عن العمل يجلسون عند شاطئ البحر أو في مقاهي بائسة حالمين بالهجرة منتظرين مراكب تنقلهم من وطنهم إلى بلاد تعطيهم حقوقاً وتعاملهم بإنسانية، ومعظمهم يُبدعون فيها، “أن ترحل” رواية الطاهر بن جلون هي أصدق وأروع تحليل وتعبير عن مأساة الجيل الشاب في عالمنا العربي. المئة غريق ومعظمهم من الشبان السوريين واللبنانيين والفلسطينيين كانوا أمواتاً قبل صعود قارب الموت، قتلهم المسؤولون الفاسدون الذين لا يحاسبهم أي قانون أو قضاء، شباب بعمر الحماسة والعطاء، كلهم طاقة ورغبة في بناء مستقبل لوطنهم وجدوا أنفسهم في حفرة مظلمة عميقة هي اليأس المُطلق، يستحيل الخروج منها إلا بوعود مهربين سفلة، هؤلاء الشبان المئة الذين غرقوا هم أموات قبل أن يغرقوا، قتلهم المسؤولون السفلة الفاسدون جعلوا حياتهم مهدورة في انتظار الرسالة من البطاقة الذكية، شعب سوريا عنوانه البطاقة الذكية، وقد انضم الموت سراً إلى تلك البطاقة، فمن يموت من الجوع والأمراض والقهر كثر.

استغربت من نفسي وأنا أتابع صور الفاجعة، كيف طغت صورة فتاة جامعية انتظرت أربع سنوات بحثاً عن وظيفة حتى جاء الفرج، وقام وسيط تعرفه أسرتها بتوظيفها في مؤسسة للدولة، شرط أن تدفع ثلاثة رواتب مُقدماً للمدير (ربما له شركاء ) المُخزي أنها وأهلها كانوا في قمة السعادة فقد حصلت أخيراً على وظيفة، ولا يهم لتدفع رشوة ثلاثة رواتب الله يساعدهم، الذل الأكبر أن يشعر المواطن المُستغل والمنهوب بالفرح أنه حصل على وظيفة وأنه سيقبض راتب الاحتقار الذي بالكاد يكفي لشراء خبز لا يؤكل.

صديق عزيز في الخمسين من عمره هو بارع في التمديدات الكهربائية، وتركيب بطاريات شحن للكهرباء، اعترف لي بأنه منذ عشر سنوات يُعطي راتبه كاملاً لمديره في المؤسسة التي يعمل فيها كي يغض المدير النظر عن تغيبه، لأنه يعمل في ورشات تدر عليه مالاً يكفي لإعالة أسرته. سألته: كم عدد زملائك الذين يعطون راتبهم للمدير؟ رد ضاحكاً لست متأكداً، لكن أظن على الأقل خمسة عشر موظفاً، فسألته وكيف يسير العمل، فانطوى من الضحك وقال عن أي عمل تتحدثين في المؤسسة الحكومية التي أعمل فيها فائض من الموظفين، معظمهم لا يعملون شيئاً سوى شرب الشاي والقهوة والتسلية بألعاب الموبايل أو النميمة، لأن سياسة الاستيعاب التي اتبعتها الدولة منذ الثمانينيات، وبدل أن تدفع رواتب محترمة لخمسة أشخاص للقيام بالعمل، فإنها توظف خمسين شخصاً وتوزع الرواتب عليهم (أي راتب الخمسة موظفين الذين يكفون للعمل يُوزع على خمسين موظفا) سياسة الاستيعاب هذه كارثة. وهذا ينطبق على كل مؤسسات الدولة، وعلى المشافي والمستوصفات وغيرها، أعرف العديد من التجار الذين بالكاد يؤمنون لقمة العيش لأولادهم من الدكاكين، معظمهم باعوا دكاكينهم، لأن موظفي التموين يأتون يومياً، أو كل عدة أيام يطلبون مبالغ كبيرة من التاجر ويهددونه بتهمة أنه يتلاعب بالأسعار، ويمنعونه من أن يُعطي فاتورة للزبون، أحد هؤلاء مات بالسكتة القلبية وهو يتجادل غاضباً مع موظف التموين، الذي كان يهدده إذا لم يدفع الرشوة أو الأتاوة. فضائح مُروعة حصلت في اللاذقية كنت شاهدة عليها (بالتأكيد هناك فساد في كل مؤسسات الدولة في سوريا، أذكر منها طرد أكثر من عشرين أستاذاً جامعياً في جامعة تشرين في اللاذقية، بسبب الرشاوى وبيع أسئلة الامتحانات، وفضائح أخلاقية كثيرة وابتزاز الطلاب، في المشفى الوطني في اللاذقية تعاقب على منصب مدير الصحة ثلاثة مديرين، أولهم بقي في منصبه عشرين عاماً نهب المليارات مع عصابة الفساد لجان الشراء، وكان يستغل “الآذنة” المساكين ليعملوا في مزرعته الواسعة، أذكر أن التفتيش المركزي حقق معه لأربعة أشهر على الأقل (مُعتمداً على روايتي هوى التي وثقت فيها كل السرقات والفساد) لكن مدير الصحة إياه بلمح البصر سافر إلى لندن بقي فيها ثلاث سنوات ثم عاد مُعززاً مُكرماً، مدير الصحة الذي تلاه غرف من المال العام المُخصص لشراء أدوية وأجهزة طبية للمشفى، وحين كُشف كانت عقوبته أنه صار سفير سوريا في دولة عربية غنية، مدير الصحة الثالث بلغت سرقاته أكثر من مليار ليرة (حين كان الدولار بخمسين ليرة) سُجن أربعة أشهر دفع رشوة للقضاء سبعة ملايين وخرج منتصراً ينوي كتابة رواية عن الفساد.

يُمكن كتابة مُجلدات عن الفساد في سوريا والأهم عدم محاسبة الفاسدين، لأن الفساد المتجذر في كل أجهزة الدولة، هو الذي أوصل الشعب السوري (خاصة الشباب) إلى اليأس والإحباط وهو المجرم الحقيقي الذي ألقى بهم في البحر ليعودوا جثثاً يلفظها بحر طرطوس واللاذقية.
الرحمة لأرواحكم شهداء الفساد والإجرام. شهداء حيتان المال الذي لا يجرؤ أحد على معاقبتهم.

*كاتبة من سوريا

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...