في ذكرى الخروج من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر..

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

* الدُّكتُور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَارْ

 

 

ما معنى النصر بالمفهوم الحضاري؟ ماذا يقصد بالهزيمة الحضارية؟ وما الفرق بين الهزيمة الحضارية والهزيمة العسكرية؟

حينما نستحضر التاريخ المليء بالأمجاد؛ وليس التاريخ المليء بالكراهية والأحقاد؛ لا نستدعيه لدراسته كأحداث وقعت في الماضي فحسب، هكذا ونمر عليه ممر الكرام؛ بل نستحضره من أجل إيجاد مادة للقياس؛ وقراءة لمشاكل وقضايا مطروحة في الحاضر؛ أو لأن هناك استشعار لخطر ما في المستقبل؛ أو لنأخذ منه العبر لحل لغز قائم في الحاضر.

على عهد الحماية الفرنسية، يئس الإنسان المغربي من طول انتظار ما كان يسمى بأيديولوجية العقد الإصلاحي الذي تدرعت به السلطات المحتلة، ومن صور القهر والإذلال والإهانة والتعسف ومصادرة حقه في حرية الرأي والتعبير وحرمانه من التدبير الديمقراطي لشؤونه بنفسه؛ وكذا عنف اليومي الممارس عليه؛ ومن نهبٍ لخيراته الطبيعية؛ والتكلم دونه في المنتديات الدولية؛ فأصيب بالإحباط والملل وتجرع اللوعة وأصبح يمضغ اليأس؛ فاختار سبيل التضحية والكفاح المسلح وضحى فعلًا آباؤنا وأجدادنا؛ -رحمهم الله- من أجل الحصول على الاستقلال والحرية؛ ضحوا من أجل التنمية؛ ملكًا وشعبًا؛
وقبلوا التضحية كي يستفيد أو تستفيد الأجيال القادمة من تنمية البلاد وخيراتها وتدبير شؤونه بنفسه في استقلالية، وفي معزل عن أي تدخل خارجي أجنبي.

وباستحضار وقائع تلك المرحلة؛ فإن الأمر لم يكن بالسهل وبالهين كما ننظر إليه نحن اليوم من موقعنا في الوقت الحالي المعاصر.

وهنا نطرح السؤال: ما هو الدور الذي لعبته النخبة الوطنية والجهوية والمحلية؛ من سياسيين وأعيان ووجهاء ومثقفين وطبقات العمال والفلاحين والتجار والمستثمرين، والموظفين والمهنيين والمسؤولين والفاعلين… وغيرهم في تلك الفترة من تاريخ المغرب لتجاوز مرحلة الاستعمار؟
فقد طرحت تحديات كما هو الشأن لباقي المجتمعات والشعوب والأمم التي عانت من ويلات الاستعمار؛ ونضرب مثلًا:

⁃ ف”ماو تسي تنغ” في الصين الشعبية؛ حدد للاستراتيجية ستة مبادئ ومن ضمنها: التلاحم التام بين الجيش والشعب.
⁃ وكذلك فعل “ستالين” الذي حدد ثلاث مبادئ رئيسية لاستراتيجية الحرب تتجلى في: تلاحم معنوي بين الجيش والشعب في إطار حرب شاملة وإعطاء الأهمية الحاسمة للإمدادات مع ضرورة القيام بإعدادات نفسية قبل البدء بالعمل المسلح.
⁃ وفي المغرب كانت الاستراتيجية تقوم على تلاحم تام وتطابق بين الملك والشعب في التصدي للمؤامرة والدسائس؛ حيث أن العظماء لا يندحرون ولا يسقطون أبدًا؛ إلا بالغدر والخيانة والمؤامرة التي يصنعها ويدبرها ويخطط لها الجبناء في الخفاء.

هل استطاعت تلك النخبة أن تستجيب وتحقق انتظارات المواطنات والمواطنين؟ وكيف السبيل للوصول إلى مفاتيح أبواب الغيث وتجاوز المحنة؟
لست أدري هل سنتمكن من ولوجها، أم قدرنا أن نبقى دائمًا نعيش في منطقة اشتباك واحتراب خارج الصيرورة التاريخية!؟

يذهب الاستعمار ويسقط الطغاة؛ وبعض المجتمعات والأمم والشعوب؛ ذخيرتها المعرفية والأخلاقية القائمة على التراكم والاحتشاد؛ تكفي لمواجهة ما يعقب الانتصار وخروج المستعمر. ولكن بعضها تبدأ مشكلتها الحقيقية عند تلك النقطة بالذات!
فتجارب التحرر من سيطرة الاستعمار كثيرة؛ ولكن تجارب إقامة العدل والقسط والسلام وتحقيق التنمية المستدامة والتقدم؛ تبقى الأقل وعلى المحك والمعيار..!
تلك إحدى التحديات، والحدود التاريخية الحراكات التحرير الوطني. فمن يصل ولم يؤمن بالديمقراطية وبالحرية وبالمشاركة؛ لن يهئ المجتمع أبدًا؛ ولو بعد حين. وتبقى طبيعة المشاركة مرهونة بمعادلة هذا البلد أو ذاك.

فالمتغلب والمنتصر حضاريًا؛ تنشأ معه علاقة فصام غريبة الأطوار؛ ومركب نقص عجيب من التناقضات؛ يقوم على: “أنا لا بحبو ولا أقدر على بعده”..
فحينما يكون منسوب المهانة الحضارية عالي جدًا؛ شيء طبيعي أن تولد عنه رغبة التشفي في الخصوم بنسبة أعلى بكثير من معالجة قضايا المستقبل وبناء غد أفضل.
فالهزيمة الحضارية تختلف بكثير عن الهزيمة العسكرية؛
الهزيمة الحضارية تورث القابلية للاستعمار. وهي في جوهرها معادلة مركبة من الحب والتعلق والحاجة والكراهية!

فمن جهة تكال للمستعمر كل أنواع السب والشتم؛ ومن جهة أخرى تكون الحاجة له والتعلق به في كل أشكال التكنولوجيا والمنتجات والعمران! فإذا حضر لُعِن؛ وإن غاب طُلب..! علاقة الكراهية والحب والتعلق به والحاجة إليه؛ علاقة غريبة تولد فصاماً في الشخصية وفي الخطاب وفي السلوك وفي مختلف التصرفات؛ فقد يحارب المستعمر في أرض ما؛ وإن ضاقت به الأرض؛ ركب (البابور مون آمورْ؛ للخروج من لمِزيرْ من بلاده التي هو فيها محكورْ) وفرَّ لديارهم يطلب اللجوء والعمل..!! -كما عبر عن ذلك رضا الطلياني في أغنيته الجميلة.

هذا العجز المركب والمتعدد الأبعاد؛ يولد نوعًا ما الإحباط؛ وغضبًا عارمًا؛ ويفقد الأمل؛ ولكن لا يتم تصريفه وتنزيله في مسالك التكنولوجيا والمنتوجات والعمران؛ وإعمال جهد وفعل؛ لإيجاد الحلول للمشاكل والقضايا الحضارية المطروحة؛ ولكن يوجه لمزيد من التذمر والاستياء وتدمير الذات (auto-destruction).
إن تقييم وضع السياسات العامة والعمومية وكذا القطاعية في بلد ما، وحتى تكون في خدمة المواطن؛ لابد لها؛ من وجهة نظري؛ أن تخضع لثلاثة مبادئ رئيسية، يمكن اختزالها في العناصر الأولية التالية:

• أولًا: مبدأ الوطني؛ ما معنى وطني؟
وطني معناه التقوقع على الوطن، كيفما كان هذا الوطن. منسجمًا أو غير منسجم، وبتركيبته التنضيدية الاجتماعية المتنافرة أو المتعايشة والمتضامنة فيما بينها.

• ثانيًا: مبدأ الديمقراطي؛ ما معنى ديمقراطي؟
والديمقراطية كإحدى المطالب العامة؛ تحيل بشكل بسيط؛ إلى بنية اختلاف لمصالح متناقضة للطبقة العاملة من: الفلاحين، والتجار، والمهنيين والموظفين والمستثمرين… وغيرهم من مختلف الفاعلين؛ وتحيل إلى فئات اجتماعية عديدة ومتنوعة تستطيع تنظيم نفسها بشكل ديمقراطي ومستقل عن سلطة الدولة. وهذه الأخيرة يبقى لها دور المنسق والضامن لعمل القوى في جميع المفاوضات وخلق التسويات. وهنا تكمن شرعية ومشروعية وجود الدولة.

• ثالثا مبدأ الشعبي؛ ماذا تقصد بالشعبي؟
التنمية لا تكون لها أية شرعية أو مشروعية لدى الشعوب والأمم؛ إلا إذا كانت هذه الشعوب والأمم؛ تستفيد منها بشكل سريع ومباشر وشامل أيضًا. وهذه هي الحدود التاريخية لحركة التحرير الوطني.
نعرف أن الإنسان المغربي قبل التضحيات من أجل الدخول في مرحلة التحديث وتحقيق تنمية وطنية يستفيد منها، كان ينتظر أن يستفيد من تضحياته أو يستفيد منها أبناؤه فيما بعد وأن يتولى تدبير شؤونه بنفسه.

هذه التطلعات قد تكون فقدت شرعيتها ومشروعيتها، وذلك حتى وإن تحققت التنمية في العديد من الجوانب، إلا أن المواطن لم يستفد منها بالشكل الذي كان يطمح إليه، بحكم سياسة العشوائية والارتجال في وضع السياسات العامة والعمومية والقطاعية؛ وكذا من خلال سلطة أتخاذ القرار، مما خلق مفارقات كبرى في المجتمع المغربي.

هنا نستحضر مقتطفاً من خطاب جلالة الملك محمد السادس الذي يقول فيه: “ذلك أننا لا نريد مغربًا بسرعتين: أغنياء يستفيدون من ثمار النمو ويزدادون غنىً، وفقراء خارج مسار التنمية ويزدادون فقرًا وحرمانا.) انتهى كلام جلالة الملك.

لذلك أصبحنا نحتاج لنموذج من التنمية الوطنية والجهوية والإقليمية والمحلية؛ تشرف عليه نخبة مسؤولة تستجيب للمشاكل والمطالب والقضايا الاجتماعية الشائكة للخروج من عنق الزجاجة، وتمدنا بمفاتيح أبواب ولوج وركوب؛ والسفر إلى فضاءات وعوالم بين الأمم والشعوب؛ عبر مسلسل ومسارات التنمية المستدامة والرقي والازدهار والتطور في ظل ظروف وملابسات داخلية ومناخ اقتصادي عالمي متغير باستمرار؛ نتيجة الحروب، وجائحة فيروس كورونا المستجد هذا؛ والحرائق وندرة وشح المياه وارتفاع وغلاء الأسعار.

فالتنمية لا تكون لها شرعية، ولا مشروعية لدى المجتمعات والشعوب والأمم؛ إلا إذا كانت هذه الشعوب فرادى وجماعات؛ تستفيد منها بشكل سريع وكلي ومباشر أيضًا، من خلال مصادر ثروة معلومة وموزعة بشكل عادل بين مكونات المجتمع؛ وتلك كانت هي التطلعات التاريخية لحركة التحرير الوطني.

التاريخ المجيد؛ يكتب صفحاته الشُّجْعان؛ الذين استرخصوا أرواحهم، وأموالهم؛ تضحية؛ وفداءً في سبيل الوطن؛ ويسمون الفِدَائيُّون المنتصرون.
أمّا التاريخ المشوه؛ فيصنع انتكاساته الفاشلون. ويُصحح أخطاءه الجِرِّيؤون.
ويستفيد على هامشه؛ ويتغنى بأمجاده دائمًا الانتهازيون.

نحن لسنا وطنيين أكثر من الوطن؛ ولسنا ملكيين أكثر من الملك؛ ولكن حبنا لهذا الوطن وحبنا للملك؛ يدفعنا للقول بأن كل شعب بأفراحه وآماله وأحزانه وآلامه، دائمًا يطمح إلى أن يكون لديه أحسن ويعرف أكثر، ويكون له وجود أقوى وقيمة أفضل في درج السلم بين المجتمعات والأمم وشعوب العالم.
—————
*مفكر وراصد اجتماعي ومحلل سياسي واقتصادي مغربي

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...