«كان ياما كان»: عبدالوهاب الدكالي وألوان التعبير الموسيقي والصوتي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

*مروة صلاح متولي

 

 

لكل أغنية من أغنيات الموسيقار المغربي عبد الوهاب الدكالي، لونها الفريد وفنونها التلحينية والطربية، وأغنية «كان ياما كان» ما هي إلا واحدة من تلك الفرائد، وتحفة فنية تم إبداعها في عز لحظات الإلهام، والانتشاء بتجليات الفن وغمراته. يمتد زمن الأغنية لعشر دقائق تقريباً، لكن هذا الزمن القصير، فيه أزمنة طويلة دائمة التجدد، وأزمان بعيدة متصلة لا تنتهي، وفيه الواقع والخيال، والممكن وغير الممكن، والاتصال بين دنيا الحياة ودنيا الموت، وتواصل الطبيعة بأشجارها وأزهارها، وأرواح الطيور العطوفة، مع أرواح العشاق الذين ماتوا عشقاً.

في الدارجة المغربية صاغ الشاعر محمد الباتولي أغنية «كان ياما كان» القصيدة البديعة والحكاية الجاذبة، التي تمسك بفنون الحكي من الحدوتة، إلى القصة والرواية والدراما، فتسرد الأحداث وتحبك العقدة، وتضع النهايات وتقرر المصائر، وتصنع الخيال وترسم صوره، وتلونها بأدق الكلمات التي تصف المشاعر والأحوال. ومحمد الباتولي شاعر مغربي من الطراز الرفيع، نسمع بعض أعماله بألحان وصوت عبد الوهاب الدكالي، ومن هذه الأعمال أغنية «مونبارناس» التي كتبها متأثراً بموت بعض المهاجرين الجزائريين، في حادث اعتداء عنصري في فرنسا، ولحنها الدكالي وغناها بتأثر صادق أيضاً، نابع من المواقف والمبادئ الأخلاقية والإنسانية التي تسمو فوق كل شيء آخر. ومن بعض كلمات هذه الأغنية: «في مونبارناس مات خويا يا بويا، برصاص قناص عنصري يا بويا، وبالحقد أعمى تربى وعاش يكره الناس، في مونبارناس سال الدم أحمر، وبكت طيور الفجر، ودم خويا يا بويا إنو عربي ولونه أسمر».

أغنية الحكاية وحكاية الأغنية

كتب محمد الباتولي أغنية «كان ياما كان» بأسلوب مفعم بالأخيلة والأحاسيس، بارع في التشويق وتسلسل الحكي، والعناية بما يقال وما لا يقال لكنه يُفهم ضمناً. ومن أسرار جمال هذه الأغنية، ما بلغه الباتولي من درجات الثراء الفني وتكثيف المعنى، فالكلمات تحمل في داخلها الدلالات والصور، والحركة ومناظر الطبيعة وألوانها، والخيال الشاسع الجميل. وكما أن أغنية «كان ياما كان» تروي حكاية، وهو ما يظهر واضحاً من عنوانها، فإن للأغنية نفسها حكاية، يرويها عبد الوهاب الدكالي لجمهوره في إحدى حفلاته، فيقول إنه في يوم من الأيام، عندما كان ماراً بسيارته في مراكش، بالقرب من ساحة الفنا، سمع صوتاً أنزله من سيارته، وقاده إلى حيث يوجد رجل مسن طاعن في العمر، جالس يغني بصوت خفيض، ويضرب على دف بإيقاع معيّن، وعندها جلس الدكالي ليستمع إليه، ومنه استلهم لحن هذه الأغنية. بأستاذية كبيرة اتجه عبد الوهاب الدكالي إلى جانب من جوانب التراث المغربي، المعروف بتنوعه وأصالته، ذهب هذه المرة إلى مراكش وموسيقاها وإيقاعاتها، وحلقاتها وحكاياتها اللانهائية، استلهم الدكالي واستوحى من كل ذلك، وقدم أغنية عصرية، مغربية الطابع عميقة الصلة بالتراث، لكن على طرازه الخاص.

بدأ عبد الوهاب الدكالي مسيرته الفنية الاحترافية في مطلع الستينيات، وكان حينذاك لا يزال في الثامنة عشرة من عمره، وعندما يتأمل المرء أقدم أعماله المبكرة، يجد أنه بدأ كبيراً بموهبة عظيمة وطموح هائل، وتفرد ظل يلازمه في مراحله المختلفة، وبحث لم يتوقف عن التجديد، والارتقاء بعملية الخلق الفني، وصناعة الأغنية العربية وتطويرها. أقام عبد الوهاب الدكالي الأغنية المغربية الحديثة، وهو بلا شك من أعظم أعمدتها الشاهقة، واستطاع أن يحقق نهضة كبرى، إلى جانب مجموعة من الأسماء الذهبية اللامعة، تضم الملحنين والمطربين والشعراء، كالملحن عبد السلام عامر، والمطرب عبد الهادي بلخياط، والشاعر عبد الرفيع جواهري، وغيرهم بالطبع. جاءت هذه الحقبة الفنية المهمة، والفارقة في تاريخ الفن المغربي، كنتاج طبيعي وامتداد لتاريخ طويل من الموسيقى والغناء في المغرب، يمتد بجذوره ويضرب عميقاً في الأزمنة البعيدة. ويتميز بالتنوع الشديد، وتعدد الإيقاعات والأوزان بارتباطاتها الجغرافية والتاريخية، وكثرة ألوان الغناء وقوة الطرب وتفرد النغمة الموسيقية. وكل هذه السمات نجدها متأصلة راسخة في فن عبد الوهاب الدكالي، ولديه أيضاً نجد خلاصة الروح والوجدان والأسلوب المغربي، وشخصية الموسيقى المغربية المعاصرة، الصادرة عن نفس مغربية خالصة، متأثرة ببيئتها ومتفاعلة مع محيطها، وقادرة على أن تخاطب العالم بلغتها الخاصة. لم ينفصل عبد الوهاب الدكالي عن الذوق المغربي، لمحاولة إرضاء ذوق آخر، وفي الوقت نفسه لم ينغلق على ثقافته المغربية رغم اتساعها وتنوعها، بل على العكس تماماً، فهو من أكثر الفنانين انفتاحاً على الثقافات الأخرى بخبرة ودراية. وكذلك هو من أكثر الموسيقيين جرأة ونزوعاً نحو التجريب، ويعمل الدكالي دائماً على إخراج الأغنية العربية من نمطيتها السائدة، وإطارها المحدود الذي يكاد أن يكون منحصراً في أنواع محددة، فقدم أغنيات مثل أغنية «سوق البشرية» وأغنية «ما أنا إلا بشر» وأغنية «الله حي» وهي أغنيات تخاطب العقول والأفكار كما تخاطب المشاعر والوجدان، كما غنى لفلسطين وللمسجد الأقصى أجمل الأغنيات، كأغنية «محراب القدس» التي يغنيها بتأثر صادق وخشوع عميق.

كان الدكالي يصدر بعض أغانيه في المغرب، فتسود في المشرق، وتُسمع ويُعاد غناؤها، كأغنية «مرسول الحب» التي قد تكون أكثر أغانيه شهرة حتى الآن، في بلدان المشرق العربي. خاض الدكالي تجربة الغناء باللغة الفرنسية، من أجل التجريب فقط كما يقول، وغنى باللهجة المصرية، عندما أتى إلى مصر وأقام فيها لعدة سنوات، وكان ذلك في حقبة الستينيات، لكنه لم يتمصر، على الرغم من إجادته اللهجة المصرية، ومعرفته بمصر ومجتمعها الفني والثقافي في ذلك الوقت، وهي ليست مجرد معرفة شكلية، بل هي معرفة عميقة لا تخلو من التأمل والتفحص والنقد. وفي مصر تلقى الدكالي نصيحة ثمينة من الموسيقار محمد عبدالوهاب، وهو أحد الكبار الذين كان يجالسهم ويعيش بينهم أثناء وجوده في مصر، نصحه محمد عبدالوهاب بأن يغني من ألحانه الخاصة دائماً، على الرغم من أن الدكالي كان في بداية العشرينيات من عمره في ذلك الوقت، لكن محمد عبد الوهاب رأى فيه الموسيقار العربي القادم.

«كان ياما كان»

أغنية «كان ياما كان» لعبدالوهاب الدكالي، أغنية يسمعها الجميع، وتصل إلى مختلف الأذواق، ويظهر جمالها للكل من العارفين وغير العارفين، بتركيب اللحن وزخرفته وتكوينه النغمي. وهذا من أسمى وأصعب ما يمكن أن يحققه الفنان، أن يصنع جمالاً ساطعاً كالشمس، لا يحتاج إلى جهد مضن من أجل اكتشافه، وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن يعيب أحد عليه سهولته، أو أن ينعته بالسطحية، فالسطحية لا مكان لها، والسهولة هنا ميزة وأي ميزة، وهي سهولة تخفي وراءها تعقيدات فنية بالغة. فأغنية «كان يا مكان» ما هي إلا سلسلة طويلة من المعاني والأفكار الموسيقية، وأعماق وأبعاد من وراء أعماق وأبعاد. كان الدكالي كفنان مثقف بحق، لا يدعي الثقافة ولا ينتحل صفة المثقف، يدرك جيداً ماذا يفعل عندما أقدم على إبداع هذه الأغنية، وأنه يُخرج جزءاً من كنوز ثقافته المغربية، ليضعه في شكل فني جديد، بأنغامه الشجية وصوته العذب وأدائه الباهر، ليذهب في مسار آخر، وليخاطب شرائح وطبقات واسعة، من الجمهور العربي والإنساني بشكل عام.

تبدأ الأغنية بدخول موسيقي قصير، عبارة عن إيقاع سوف يستمر وسوف تُبنى عليه الموسيقى، يدخل عليه إيقاع آخر بنبر من الوتريات، ثم يدخل عليهما الخط الميلودي الذي تعزفه الكمنجات، والثيمة الموسيقية المرادفة لعبارة كان ياما كان، التي ألفها الدكالي بمهارة فائقة، وأبدع في توظيف درجات البطء والسرعة الخاصة بها. بعد أول سماع لتلك الثيمة الموسيقية، يبدأ الدكالي الغناء قائلاً: «كان ياما كان، حكاية ترويها العجايز للصبيان، قبل ما تنام، يغنيها راوي أعمى من زمان، بادي الكلام، بكان ياما كان». هذا المقطع الأول هو افتتاحية موضوع الأغنية والتمهيد للحكاية المقبلة، وفيه تهيئة للسامع لكي ينغمس في أجواء الخيال، وما سيرويه الدكالي بالغناء، عن عاشقين كانا يعيشان في هناء، يرعيان الغنم وسط الطبيعة، ويحلمان بالزواج بعد موسم الحصاد، وبأولاد سيأتون مع حياة جميلة. في المقطع الثاني من الأغنية، يتحول الدكالي من صوت الراوي الذي يسرد الحكاية، إلى صوت العاشق نفسه الذي يكمل سرد حكايته، فيقول: «كان ياما كان، أنا وحبيبي عاشقين الاتنين، نرعوا الغنم، عايشين هانيين، فوق المرج الأخضر، بالليل نباتوا ساهرين، نغنوا ونحلم، في الصبح نخرجوا متعانقين، نحلموا بموسم الحصاد، نجمعوا الصبا وخير البلاد، نديروا عرس نولدوا ولاد، هكدا كان حلمنا يكبر، وكان ياما كان».

كما يتغير صوت الراوي في هذا المقطع، يتغير أيضاً سير اللحن وطريقة الغناء، فبعد كان ياما كان في بداية المقطع، ينطلق اللحن بالمزيد من التنغيم، لكنه لا يتحرر بالكامل من الجملة الموسيقية الرئيسية، وإيقاع الحكي السريع، الذي لا يزال يعمل على إدخال المستمع إلى قلب الحكاية، وما سيأتي من أحداث. بطريقة ما تُخبر الموسيقى السامع، بأن هذا ليس كل ما يريد أن يقوله الراوي، ويغني الدكالي بأسلوب تمهيدي سريع ومختصر، فلا يكرر ما يغنيه، لأنه لا يريد الوقوف عنده في الأساس، ويرغب في الانتقال إلى جزء آخر. والتكرار عموماً في هذه الأغنية قليل، ويتم استخدامه وتوظيفه بقدر محدود في مواضع معينة، من أجل تحقيق الأثر المطلوب.

يمتلك الدكالي صوتاً رخيماً، له نبرة حلوة ورنين أنيق، ويتسم هذا الصوت بالمرونة وقوة النَفَس وامتداده، وهو صوت تهواه الأذن في كل أحواله، في أجوبته وقراراته، وفي همسه وجهره، وفي قوته وانفعاله، وفي ورقته وحنانه، كل هذا بالإضافة إلى جمال لفظه وانضباط نطقه، حتى يكاد السامع يشعر بحلاوة لفظ كل حرف منفرداً. وفوق كل المميزات المدهشة لحنجرة الدكالي، فإنه يتمتع بقدرات تمثيلية رائعة، إذ يستطيع أن يمثل أثناء الغناء، أو أن يمثل بالغناء، وأن يحبك هذا التمثيل تماماً بمتطلباته الدرامية والعاطفية، وكذلك الساخرة سخرية الأسى، وتعد ضحكته المغناة المشهورة في أغنية «هادي هيا أنتي» مثالاً على هذا الأمر. أما أغنية «كان ياما كان» ونظراً لكونها حكاية، فإنها تزخر بهذه القدرات التمثيلية، الآتية من أعماق الشعور لديه، والتي تؤثر في السامع بدرجة كبيرة، وتضيف جمالاً آخر إلى جمال الكلمة واللحن والصوت. والتمثيل موهبة من بين مواهب الدكالي المتعددة، وهو رسام أيضاً، وكانت له مساهمات مسرحية وسينمائية، لهذا جاءت أغنية كان ياما كان، على هذا النحو الذي يجمع بين الدراما وفنون الحلقة المغربية، التي هي أصل من الأصول القديمة لفن المسرح.

وتتعدد ألوان التعبير الموسيقي والصوتي في هذه الأغنية، والتعبير عموماً يعد من أهم السمات المميزة لفن عبد الوهاب الدكالي، فهو يهتم بالجانب التعبيري والوصفي في موسيقاه أشد الاهتمام، ويمنح كل كلمة يغنيها، بل كل حرف يغنيه، أقصى طاقاته التعبيرية. ومن يستمع إلى أغنية «كان ياما كان» يستطيع أن يقف على الكثير من تلك الطاقات التعبيرية، بل إنه سيكتشف المزيد، في كل مرة يعيد فيها الاستماع إلى تلك الأغنية الخلاًبة.

ينتقل المقطع الثالث من الأغنية بالسامع إلى قلب الأحداث، ونقطة اشتعال الصراع، ومفاجآت القدر وحوادثه التي ألمّت بالعاشقين، إذ يقول: «وفي يوم من الأيام، ولد شيخ البلاد، على جوادو كان هواد، شاف غزالي في الواد، خطفها وزاد، خلا دمعي عليها هواد، ما قدرت عليها نصبر، في ليلة الفرح، تألم قلبي وسال الجرح، وكان اللي كان». لحن الدكالي هذا المقطع بإيقاع سريع إلى حد ما، وعند قول «ولد شيخ البلاد» تُنذر الموسيقى بالخطر، أما تلحين عبارة «على جوادو كان هواد» والجملة الموسيقية التي تلي هذه العبارة، فقد صاغها الدكالي على غرار وقع أقدام الحصان الراكض، المتجه نحو العاشقين بعنف. وكذلك تبدو تلك اللمحة الموسيقية التي تأتي سريعاً بعد «خطفها وزاد» كما لو أنها توحي بالاختفاء والهروب من العاشق الذي فقد حبيبته. وفي هذا المقطع يجد السامع أن الدكالي، يعتمد على تكرار بعض الكلمات، وتمديد بعض الحروف كما في كلمة «سال» والتمديد الطويل لحرف الألف عندما يقول «وسال الجرح» هذا التمديد يوحي بهول الألم وعظم المصيبة، ولمثل هذه اللمسات الخاطفة، سواء الموسيقية أو الصوتية، تأثيرها الكبير على المستمع، ودورها المهم في إدخاله إلى أعماق الأغنية ومعانيها.

وفي المقطع الرابع الذي يقول: «وقبل ما يطل الصبح، ويبان ضو الفجر، تسللت للقصر، وخطفت البدر، ناوي بغزالي نهرب، لكن السور كان عالي، ولما قفز جوادي عتر، شافونا الأهالي، واتفضح السر». نجد أن الدكالي لحنه بإيقاع سريع أيضاً، على غرار المقطع الثالث، لأنهما معاً يمثلان ذروة الأحداث، وتشابك خيوط العقدة الدرامية، التي سيأتي بعدها الحل المُفرح، أو الحل المُحزن، فبعد أن تصل العقدة إلى ذروتها، لا بد من أن تنحل على أي وجه من الوجوه، سواء كان سعيداً أو مأساوياً.

يمهد الدكالي لهذا المقطع بفاصل موسيقي قصير جداً وسريع، يربط ما بين المقطع الثالث والمقطع الرابع، ويحتفظ بالمستمع في حالة الانفعال والترقب. ويكرر الدكالي بعض الجمل في هذا المقطع، ويتألق في تعبيريته الموسيقية والصوتية، إذ يكاد المرء يسمع صوت أقدام الخيل هنا أيضاً، لكن بإيقاع مغاير، إيقاع الهروب لا إيقاع الهجوم. تتغير تعبيرات صوت الدكالي من جملة إلى أخرى، فيخفق صوته بالحب عندما يقول «وخطفت البدر» وينبض بالقلق والتوتر عندما يقول «ولما قفز جوادي عتر» أما تلك الطريقة التي غنى بها «وشافونا الأهالي» فهي مثيرة للإعجاب حقاً، وتحديداً نطقه لحرف الهاء في كلمة الأهالي، إذ يوحي هذا النطق بفداحة ما وقع، وهول الأمر، والروع الذي تمكن من قلب العاشقين، والخوف الذي سيطر عليهما. بعد هذا المقطع، يأتي مقطع قصير للغاية، أو ربما هو ملحق للمقطع الرابع، أو مجرد خبر وإعلان عن النهاية، إذ يقول: «في ديك الليلة، حكمت القبيلة، أنا والخليلة، نترجمو بالحجر». يغني الدكالي هذا الخبر بصوت يمتلئ بالحزن، ويكرر «أنا والخليلة» ثلاث مرات، كأنه يريد التوقف عندها، ولا يريد أن ينطق ما بعدها، أما «نترجمو بالحجر» فإنه يغنيها بصوت خفيض متهدم ونطق خاطف، يميل إلى الإلقاء الملحن أكثر من الغناء، وبأداء يصف الشعور بالهزيمة، والخوف من ملاقاة المصير المرعب، وبأسلوب الإبلاغ عن خبر سيئ. يعد هذا المقطع القصير الأخير، نهاية القسم الأكبر من الأغنية والحكاية، سيبدأ بعده القسم الأخير، الذي سينتقل بالسامع إلى أبعاد أخرى شديدة الجمال وعميقة الخيال، وقد جعل الدكالي هذا الانتقال يتم من خلال فاصل موسيقي حزين للغاية، فالشاعر بعد أن قال «نترجمو بالحجر» انتقل مباشرة إلى موت العاشقين، ولم يصف مشهد الرجم، واكتفى بالإخبار عن تنفيذ الأمر وحدوث الموت، وأعطى لمحة صغيرة عن الصورة التي ماتا عليها، لكن الدكالي وصف هذا المشهد الرهيب بالموسيقى، ومنحه بعض الوقت ليتخيل السامع ما يجري، ونفذه بارتعاشات الوتريات والناي وبعض الآهات الخافتة القليلة، والإيقاعات شبه الجنائزية.
من بعد ذلك يأتي المقطع التالي الذي يقول: «بين يوم وليلة، تنفذ الأمر، وماتوا العاشقين متعانقين الاتنين، من أجل الحب ضحوا بالعمر، وبكت عين كل العاشقين، على اللي تدفنوا الاتنين، في قبر واحد بجنب النهر». هنا يعود الدكالي إلى الغناء بصوت الراوي، لا بصوت العاشق، وينتحب الغناء ويعتمد على تمديد بعض الحروف من أجل تأكيد هذا الانطباع، والضغط على بعض الحروف أيضاً، كحرف الميم في كلمة الأمر، لوصف الشعور بالغضب والقهر. ومن بعد يعود الدكالي إلى الغناء بصوت العاشق مرة أخرى قائلاً: «وبعد يومين، على جنبنا نبتت شجرة، أغصانها متشابكين، رخت ظلها وظللت القبر، وردات اتنين نبتوا متعانقين، باكين بالعين، لونهم أحمر، عصفور أخضر في كل فجر يجي يزورنا، يغني حكايتنا، ويدعي لله لنا يغفر». لا شك في صعوبة تلحين هذا المقطع وغنائه، فهو يأتي على لسان عاشق ميت، يصف ما يحدث حول قبره الذي دفن فيه هو وحبيبته، فكيف يلحن الدكالي هذا وكيف يغنيه؟ وعلى أي حال يصوره؟ حال الحزن أم حال السعادة؟ حال الرحمة أم حال العذاب والخوف؟ نجد أن ما فعله الدكالي هنا، هو أنه جعل اللحن يوحي للسامع بالراحة والأمل في رحمة الله، وبأن العاشقين باتا في مأمن من أذى البشر، فالشجرة تظللهما، والورد يبكيهما، والعصفور الأخضر يزورهما ويطلب لهما من الله الغفران، يجعل الدكالي تلك الصور الخيالية، تتهادى أمام السامع بالموسيقى والغناء. إلى أن يصل إلى المقطع الأخير من الأغنية الذي يقول: «ومع الأيام، صبحوا العشاق كل جمعة يزوروا الشجرة، يرشوا المقر ما وحنة وزهر، يشعلوا شمعة، يذرفوا دمعة، يغطونا بتوب حرير لونو أخضر، ومع الأيام، صبحت حكايتنا ترويها العجايز للصبيان، قبل ما تنام، يغنيها راوي أعمى من زمان، بادي الكلام، بكان ياما كان». هذه الخاتمة تمنح الأغنية شكلاً دائرياً متصلاً، يبدأ من حيث ينتهي، وينتقل الدكالي من السرعة في بداية المقطع إلى البطء عند قول «صبحت حكايتنا» ويزداد هذا البطء تدريجياً إلى أن تنام الموسيقى.

*كاتبة مصرية


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...