إبراهيم عبد المجيد
التشاؤم حالة نفسية.. نحن جميعا نولد أسوياء. حالة وصل إليها الإنسان لظروف مرّ بها في طفولته أو في شبابه وكذلك في كهولته. التشاؤم درجات وأنواع. منه القاتل الذي يدفع صاحبه إلى العزلة، أو الحياة بين المخدرات والخمور بحثا عن عالم أجمل. قليلون من يستطيعون التواؤم معه والاستمرار في الحياة والفرجة عليه من بعيد، رغم أنهم أصحابه، وهنا يتأكد فصام إرادي جميل.
أعترف لكم بأني عشت حياتي مع هذا الفصام، وكنت أدركه وأسعى إليه. لقد واجهت في حياتي مصاعب كثيرة من الحركة الثقافية، خاصة بعد أن نشرت أكثر من رواية لاقت إعجابا كبيرا لم يتوقعه من حولي ولا أنا أيضا. أنا لا أتوقع أيّ إعجاب أو عدم إعجاب، فقد عشت لا تعنيني من الكتابة إلا متعتها، وما بعدها لم أسعَ إليه.
كنت في بداية حياتي الأدبية أسعى بهدوء لإقامة ندوة أو أكثر عن رواية لي، لأني أعرف أن من سيساهم فيها من النقاد، سيكتب ما يقوله عنها في مقال ينشره. توقفت عن ذلك منذ أكثر من ربع قرن، وعدد الندوات التي أقمتها لا تزيد عن ثلاث أو أربع ندوات، تاركا الأمر لمن يشاء أن يكتب عن الرواية أو لا يكتب، بل توقفت منذ عام 2000 عن النشر في المجلات الأدبية الشهرية في مصر أو الفصلية، ومجموع ما نشرته فيها كلها منذ ذلك الوقت لا يزيد عن أربع مرات. فعلت ذلك لأن الصحف اليومية مصرية وعربية، صارت مفتوحة أمامي، قلت فلأترك الفرصة لغيري من الشباب.. أستطيع أن أقول إنه رغم أي شيء فأعظم ما خرجت به من حياتي الأدبية هو الرضا عن النفس. لم أترك للتشاؤم فرصة أن يغتالني أو يسد عليّ الطرق. لكنني كثيرا الآن ما أنظر حولي وأرى الانهيار الذي شمل بلادي في السياسة والاقتصاد والبناء، وغير ذلك كثير كتبت عنه كثيرا من المقالات التي تجاوزت الآلاف، ولم يستمع إليها أحد ممن يحكمون. شعوري بالخسارة الكبيرة بعدما اجتمعت على ثورة يناير/كانون الثاني كل القوى المضادة، فذهبت بها إلى فضاء لا يبدو منه عودة إلا بعد عشرات السنين. هذا الشعور كثيرا ما يملأني بالتشاؤم، لكنني حين أفكر به على مهل، وأترك الموسيقى الكلاسيكية حولي كعادتي، أتذكر نكبات الثورات في العالم، وأشعر بأن ما جرى ليس جديدا ولا غريبا، واستمر في القراءة والكتابة.
يحدث أني أتابع الدنيا على فضاءات السوشيال ميديا، فأرى كل ما يأتي منها من أخبار ووقائع يدفع إلى التشاؤم الذي يدعو إلى العزلة، لكنني معتزل الحضور وأكتب لأكون حاضرا في الغياب! قمت بتلخيص هذا الزمن الذي نعيشه في مصر، بأنه الزمن الذي صارت فيه الحقائق أوهاما، والأوهام حقائق، وكلما حاولت الخروج من هذا الوصف أعود إليه. وصل بي الحال أني كلما شاهدت شجرة في صورة، أفكر أن أطمئن عليها في اليوم التالي. هل قطعوها وبنوا مكانها كشك سجائر مثلا قاموا بتأجيره لشخص ما. من بين الأشجار التي ترعبني صورتها شجرة في الزمالك في الطريق إلى برج القاهرة، إنها واحدة من تراث الدولة الخديوية جُلبت من الهند لتزرع بأمر الخديوي إسماعيل عام 1868.هى شجرة الفيكس البنغالي ذات الجذور الهوائية التي تعود لتصل للأرض.. إلى الأم. شجرة عتيقة وممتدة بفروعها بشكل رائع. تلك الفروع التي تخرج من الشجرة الأم تمتد لتصبح هي الأخرى جذورا لشجرة جديدة، ما يجعل لها شكلا لا تستطيع معه التفرقة من أين أتت هذه الفروع. من الأرض أم السماء. يدهشك فى النهاية أن مصدرها شجرة واحدة.
أحيانا يتم تداول صورتها على صفحات السوشيال ميديا باعتبارها معجزة نباتية رائعة، فيأخذني التشاؤم إلى الرعب من قطعها بأي حجة، أقلها توسيع الشارع لمرور أي مسؤول كبير، يجب أن لا يدور حولها ويتعب سائقه في إدارة مقود السيارة أو «الدريكسيون»! أجل يأخذني التشاؤم إلى ذلك من فرط ما أرى من قطع أشجار لبناء محلات فول وفلافل يتم تأجيرها، شملت حدائق عظيمة مثل حدائق قصر المنتزه، أو حديقة أنطونيادس، أو حتى حديقة الخالدين على كورنيش الإسكندرية. أما في القاهرة فحدث ولا حرج. هذا العداء للخضرة الذي يمشي مع العداء للماء، الأقدم الذي أجهز على أكبر مساحات من بحيراتنا، وانتهى إلى النيل الذي تبني إثيوبيا سدها لتعطينا الماء كما تشاء في ما بعد، أو كما يمزح البعض «حيكون للنيل عدّاد زي عدّاد المياه في البيوت». أتشاءم من نشر صورة الشجرة العظيمة التي لم يمر عليها شاب وفتاة إلا وكانت لهما معها ذكرى، من قُبلة سريعة أو من كلمة يكتبونها عليها، أو من وقفة تحت ظلالها، أو من الدوران والدهشة حولها. لكن حتى لا أستمر، هل لا يوجد للتفاؤل طريق. الحقيقة الوحيدة التي تدعو إلى التفاؤل هي الحياة الأدبية حولي. رغم ما يأخذه الكثيرون على طوفان الروايات، والكثير منها لا معنى ولا قيمة له، فهذا أمر يدعو إلى التفاؤل. ورغم الحديث عن تواري الشعر فدواوين جميلة تصدر، والأمر نفسه في القصة القصيرة التي صارت لها مسابقات كثيرة في مصر، رغم غضب البعض من الجوائز، وبالذات جوائز الرواية، فمن يتقدمون في كل جائزة كثيرون، ومن يخسرون الجائزة ليسوا دائما الأقل جودة، فهناك ما هو جيد ويمكن أن يكون أفضل، لكن الجوائز وتقدير الأعمال مسألة إنسانية ليست علمية مئة في المئة، ومن ثم فالأمر نسبي في التلقي من محكِّم في الجائزة إلى آخر.
من أجمل ما قرأت مؤخرا تهنئة من الكاتبتين الرائعتين السورية لينا هويان الحسن والمصرية ميّ التلمساني، لميرال الطحاوي التي كانت معهما في القائمة الطويلة لجائزة البوكر، وتقدمت روايتها إلى القائمة القصيرة، ولم تتقدم رواية أي منها رغم روعة كتابتهما أيضا. الثلاث كتاباتهن مع الكثيرين، مثل شجرة الفيكس البنغالي تظلل المكان حقا، لكنها أيضا تظلل الزمان. طبعا التهنئة لميرال أو غيرها ممن وصلوا للقائمة القصيرة، كثيرة من الكتّاب، لكني أتحدث عن تهنئة ممن كانتا في القائمة الطويلة، وأنا على يقين من معرفتي بلينا هويان وميّ التلمساني، أنهما لا تجاملان، ومشغولتان أكثر بما تكتبان من روائع. على عكس البعض الذي حين تتجاوزه جائزة ينتقم بالشتيمة في لجنة التحكيم، كأن الجوائز آخر العالم، بينما قراؤك هم عالمك الحقيقي والوحيد. قد يندهش البعض من كلامي ويرى الأمر عاديا، لكن على أن أعترف بأني ابحث لنفسي عن أزقة للتفاؤل في ما أقرأ في الثقافة.. أنا أهرب بالكتابة عما حولي، لكنني لا أستطيع أن أهرب من الحياة الثقافية ولا أحب. فقط أتجنب ترَّهاتها ولا تغريني السوشيال ميديا أن أدخل فيها. ولأني أتابع الكتب الفكرية أكثر في هذا العمر، أجد حولي أسماء رائعة، اقرأها وأكتب عن كتبها الأخيرة هنا أو في مواقع أخرى، بقدر ما أستطيع، لانشغالي أيضا في الحياة بأشياء كثيرة على رأسها أني لم أعد أدرك هل الزمن يمر حقا. حين أقرأ هذه الكتب يأخذني التفاؤل، لكن ما إن أنتهي منها حتى يقفز السؤال، لماذا يا مصر لا يوجد في من يديرك من يسمع أو يقرأ، ويصر على جعل الحقائق أوهاما والأوهام حقائق.
في النهاية أحمد الله أني أستطيع أن اقفز إلى كتاب آخر يعيدني إلى الفكر السليم، ويفتح لي باب التفاؤل الذي صار بعيدا في الفضاء، لكن لا أتردد في الدخول إليه، فهو النجاة الوحيدة لكل صاحب رأي أو كل مبدع، رغم أن الديناصورات تحيط بالطريق. تركت دون أن أدري التشاؤم للأحلام، وآخر ما حلمت به أن أيادي جبارة نزلت من السماء حملت مصر وشعبها، وصار مكانها في قارة افريقيا خاليا عليه لافتة «مصر سابقا» استيقظت أضحك لأن مصر حولي وكتبت هذا المقال.