تحت سطح الزواج الساكن: لماذا تُشعر رغبة الانفصال بتلك الطمأنينة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*حسن داوود

 

 

رغم حضورها القليل أمكن لوداد أن يظلّ حضورها مهيمنا في تلك السيرة العائلية. دليلي إلى ذلك هو أن تلك الحكاية عن بطلي الرواية نسرين وزوجها كارم، لم تختتم بانفصالهما، الرضائي لكن المأساوي، بل احتاجت إلى ختام ثان تنتهي عنده. فقط كلمات قليلة شكّلت ذاك الختام الأخير، الذي هو فصل الرواية الرابع، الذي لا تكفي سطوره لملء صفحة واحدة. هو فصل صغير حضرت فيه وداد الغائبة بالافتراض، أو بالظن، مثلما يحضر طيف وضعت وردا أبيض على قبر سليم زوجها الذي هجرته مبكّرة، وغادرت من فورها.

هو ختام يبقي على سرّ تلك المرأة (وداد)، بل يزيده استغلاقاً. ما سبق من حياتها في الرواية، ذاك القليل، وضعت خطّا فاصلا له لحظة ولادتها لابنتها، أعني اللحظة ذاتها التي خرجت ابنتها نسرين إلى الحياة. ولم يدرك سليم، زوجها، «أنها إذ تمسك بيديه وتشدّه إليها في انتظار خروج الابنة من رحمها، إنما كانت تودّعه». ولم نعرف، نحن قراء الرواية، كما لم تعرف عائلتها، على وجه اليقين، إلى أين اتجهت تلك المرأة، ولا أين أمضت حياتها، ومع مَن. هي سرّ الرواية، وبطلتها الخفيّة الماثلة في حياة ابنتها التي لم تجرؤ على أن تجازف مثلما جازفت أمها، وهذا ما قد يذكّر بفشل التابع عن مجاراة مثلّه في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال».

سليم هو الشخصية الغامضة الثانية في الرواية، رغم طيبته كوالد وعلاقاته المحببة مع كل من يعرفونه في القرية. كان يخفي شيئا خلف تلك الطيبة، أقصد بما يتعلّق بوجوده الشخصي، وبسرّ ما لم يكشفه عن علاقته بزوجته وداد. في مكان ما من الرواية هناك مَن يُلمح إلى أن من نذر لهما حياته، الأم وابنتها، ليستا كما ينبغي أن تكون أطراف العائلة الثلاثة، فالأولى خانته ربما (ولن تغيب هذه الربما عما يتعلّق بحياة وداد) والثانية، تلك التي كان أبا مثاليا لها، لم تكن ابنته حقّا.

سليم هذا، الذي لسبب ما يظلّ غامضا هو أيضا، تناديه ابنته باسمه، هكذا: «سليم». هو حاضر في وعيها حضورا ملتبسا، رغم أدائه دور الأب كاملا. تقول هي، نسرين، حين انتقلت إليها مناوبة الروي المتنقل بينها وبين زوجها كارم: «كنت أعيش في كنف رجلين أحبّاني، غير أني بدأت باكرا أشعربأنني امرأة جاحدة لديها أب محبّ ملأ طفولتها بالحياة وزوج محبّ تعيش برفقته». سليم هو الأب -الرجل. لذلك شعرت بأن وفاته لا تعني العائلة، زوجها وولديها. أرادت أن تقول لنا، يقول كارم زوجها، إنها هي مَن خسرته ولم تتح لنا أن نحزن معها.

كانت نسرين، بخلاف أمهّا، قد بقيت مع زوجها بعد ولادة ولديها، بل هي بقيت معه ومعهما سنوات تقترب من العشرين. أخرتها عن الانفصال ذكرى علاقة الحب بينها وبين زوجها كارم، ثم، حسبما يرى القارئ، فقدانها الشجاعة التي تحلّت بها والدتها. لقد تركت حياتها الزوجية، والعائلية، تمرّ بطيئة ومتردّدة كل تلك السنوات، فيما ظلُّ والدتها ماكث في ما يمكن اعتباره حياتها الداخلية أو اللاواعية. وهذا ما جعلها، في مرحلة متقدّمة من زواجها، تغفر لزوجها خيانته لها. الحبّ الذي حصل انتهى، وها هما، ورغم اهتمام أحدهما بالآخر، يسيران بلا مشاعر محتدمة، منفصلين كلا في اتجاه، «كأن انفصالنا بدأ ينمو ما إن ارتبطنا… وكان ذلك الانفصال الرهيف النمو يشعرني بالطمأنينة». تلك الرهافة التي كان ينمو بها الانفصال تكتنف الرواية كلها. ذاك أنه، باستثناء ذلك الهجر المفاجئ الذي قامت به وداد تعفّ الرواية عن إدخال ما هو دراماتيكي على حياة الزوجين، بل إن إجراء الحياة على رسلها، ظاهريا، يطال الجوانب الأخرى في الرواية. لم يسْعَ الروائي سومر شحادة إلى إدخال الحاضر العنيف لبلد الزوجين سوريا على روايته، إلا بالقدر ذاته من الخفاء الذي يسم أركان عمله كلّه. بقي لنسرين حنينها الخاص للاذقية، حيث يقيم أقاربها، حنينها الشخصي المضاد لإقامتها مع زوجها في الإمارات. وإذ يحاول قارئ الرواية أن يجد سببا متعيّنا لتلك الرغبة بالعودة، لن يصل إلى إجابة حاسمة. فكل ما في الرواية خاضع لتأويلات متغالبة تحت ذلك السطح الذي تتداخل تحته المشاعر المتناقضة للشخصيات، لذلك يشعر قارئ الرواية بأن القراءة هي سعي متصل للكشف أكثر من كونها لمتابعة ما سيجري من أحداث. كما لو أننا، في ما نقرأ، نبطئ عن قصد، لأن هذه الجملة، أو هذا المقطع، لا ينبغي الاكتفاء بظاهر ما يسرده.

رواية سومر شحادة «منازل الأمس» صدرت عن دار «الكرمة» في القاهرة في 182 صفحة- سنة 2023

*كاتب لبناني

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...