المهاجرون والحقّ في دفن كريم

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

المهدي مبروك

 

 

تفيد مختلف تصريحات السلطات الطبية والقضائية، وحتى الأمنية، في صفاقس التونسية (300 كلم من العاصمة) بأن طاقة استيعاب المستشفى الرئيسي في المدينة (مستشفى الحبيب بورقيبة) لم تعد قادرة على حفظ جثث المهاجرين. لا توجد أرقام دقيقة، ولكن معلومات من مصادر بلدية، وهي التي لها صلاحيات الدفن، تفيد بأن نحو مائتي جثة دفنت في الأيام القليلة الماضية. والمستشفى المذكور لا يقدر على حفظ سوى ما يناهز 30 جثة، وهي تظل تحت مسؤولية الطب الشرعي والإدارات الأخرى التي تأذن، في النهاية، بدفنها بعد إجراءات طويلة ومعقدة. تطلق إدارة المستشفى صيحة إنذار بأن الوضع كارثي حقيقة، وأن رائحة الموت تسلّلت إلى الأقسام الأخرى، فضلاً عن قلة إمكاناتها. وتضيف السلطات المعنية أنها اعترضت خلال الشهور الثلاثة الأولى من السنة الجارية ما يناهز 1450 مهاجراً، أكثر من 13 ألفاً منهم قادمون من جنوب الصحراء الأفريقية.

منذ سنوات عديدة، ظلت مسألة دفن جثث المهاجرين الأفارقة مشكلة أخلاقية وقانونية تطرح بحدة من حين إلى آخر في أوساط نشطاء حقوق الإنسان في تونس، غير أنها لم تثر اهتمام الرأي العام المنهمك في القضايا الحياتية الخاصة: الشغل وارتفاع الأسعار وتردّي الخدمات. هذه المسائل الملحة همّشت التفات التونسيين إلى المهاجرين، خصوصاً إذا كان الأمر متعلقاً بجثثهم. ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن أعمالاً فنية رائدة (أفلام وثائقية، رسم، مسرح) تناولت المشكلة، غير أنها لن تنجح في لفت الرأي العام العريض إلى ما تخفيه من نفاق أخلاقي وفصام سياسي رهيب في مناخ من الشعبوية الناقمة على المهاجرين.

الصور التي تنقلها من حين إلى آخر شبكات التواصل الاجتماعي لمهاجرين موتى مرعبة حقيقة

ترمي الشواطئ التونسية يومياً تقريباً عشرات الجثث التي قد تتكدّس أياماً عديدة، وبعضها يتحلّل من دون أن ينتبه إليها الناس، خصوصاً أن هذه الشواطئ تمتد على طول ما يناهز 1500 كلم، بعض منها مهجور أصلاً. هذا فضلاً عن ضعف الإمكانات التقنية التي تجعل رصد الجثث تلك أمراً ممكناً. الصور التي تنقلها من حين إلى آخر شبكات التواصل الاجتماعي مرعبة حقيقة. ويروي صيادون عن معاناتهم اليومية مع تلك الجثث التي غدت مما تخرجه شباكهم، حتى إن بعضهم غادر هذه المهنة الشاقة، وقد أصبح صيدُهم جثثاً وأشلاءً بشرية من بحر صغير لا يستوعب تلك الأحلام الكبيرة التي دفعت هؤلاء الشباب إلى هذا المصير المحتوم.

لم يكن الناس في ما سبق يفرّقون بين الجثث، وكانوا يدفنونها جميعاً في أطراف مقابر “المسلمين” حتى تكاثرت وتناثرت على امتداد الشواطئ، مع صعود يمين شعبي في أوساط عديدة حتى قبل مجيء الرئيس قيس سعيّد. ثمة فقه شعبي متشدّد غير كوني، يعمد الى إعادة القتل ثانية على الهوية ووفقه تُفرَز الجثث. سيبتكر الناس أمارة الختان دليلاً على “دين” الجثة، خصوصاً إذا كانت غير محللة للفرز وعزلها غير المسلمين منها في مقابر خاصة، ثم ما لبث هذا الفرز أن تعمم استناداً إلى اللون، فاذا كانت البشرة سوداء، فُرزَت أيضاً لتدفن بمقابر “الغرباء”.

تحولت مدينة جرجيس التونسية أخيراً إلى معبر هام يسلكه الراغبون في الهجرة

وكانت مقبرة الغرباء في جرجيس أول مقبرة “رسمية” لدفن الجثث التي ألقاها البحر على اليابسة، تقع على أطراف المدينة الساحلية الجميلة القريبة من جزيرة جربة الساحرة. المدينة التي تحولت أخيراً إلى معبر هام يسلكه الراغبون في الهجرة، وعادة ما يتسللون من الحدود الليبية، كذلك فإنها نقطة انطلاق لتونسيين عديدين. سواحلها الهادئة عادة، ومناخها المتوسطي جعلاها قبلة لهؤلاء المهاجرين، غير أنها تحولت إلى مقبرة عائمة، وهي التي اشتهرت منذ القديم بمهارة بحارتها ونوعية أسماكها الجيدة.
يعود تأسيس تلك المقبرة إلى جهدٍ بادر إليه شباب المدينة، قبل أن تسنده منظمة الهلال الأحمر التونسي، بالتعاون مع بلدية المكان، ثم تلتها مقبرة ثانية، سمّيت “حديقة أفريقيا”، وكانت نتيجة جهود ذاتية دعمتها مبادرات دولية كانت حريصة على دفنٍ يليق بالكرامة البشرية، التي لم ينعم بها المتوفون حين كانوا على قيد الحياة. يوضع في تلك المقبرة رقم الجثة وتاريخ انتشالها، فضلاً عن جنسها.

كانت جرجيس قد عرفت، في الأشهر القليلة الماضية، أزمةً جعلت من تلك المقبرة حديث الرأي العام والدولي، إثر خطأ عدّه الناس فظيعاً لا يُغتفر، حين دُفنَت جثث بعض أبناء المدينة التي انتشلها الصيادون بعد حادث غرق سفينتهم في مقبرة الغرباء تلك. ما زالت التحرّيات القضائية جارية لمعرفة ملابسات ذلك الحادث القاتل، الذي يتهم فيه أهالي الضحايا السلطات، بسبب التراخي في النجدة، أو بسبب خطأ تقني فادح ارتكبته وحدة حراسة السواحل البحرية، فيما ذهب الرئيس قيس سعيّد إلى أن مؤامرةً ما كانت وراء ذلك كله، فـ”حيتان البرّ أخطر من حيتان البحر”، على حد قوله.
لم يخل الأمر من تلاعب بالمشاعر وتوجيهها، حتى تحصل إثارة “وطنية للدفن” تُنسي الناس أن أصل المشكل سياسات وطنية وإقليمية جعلت لهذه الرحلة نهاية مؤلمة.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...