ذ.نزهة الضفضاعي
حوار مع الدكتور نبيل فولي محمد منجي
– ما الدور المنوط بالمسجد في المجتمع الإسلامي حسب الشريعة الإسلامية؟
المسجد له دور روحاني ودور ثقافي ودور اجتماعي، وما زاد على ذلك فمرجعه إلى الظروف والأحوال، أما دوره الروحاني فهو أنه مكان مخصص للصلاة والذكر والاعتكاف، حتى إن صلاة الجمعة لا تصح في رأي المالكية إلا في المسجد، وهناك اتفاق بين الفقهاء على حُرمة هجر الرجل للمسجد وتأديته كل الصلوات أو أكثرها في البيت أو مقر العمل، وإذا استأذنت المرأة في الذهاب إلى المسجد في أي صلاة بالليل أو النهار فلا حق لأبيها ولا زوجها في منعها من ذلك. وهذه الوظيفة الروحية هي الوظيفة العظمى للمسجد حيث يتردد عليه المصلون، ويعلنون كل بضع ساعات تجديد التواصل مع خالقهم سبحانه، واستعادة النشاط والعافية الدينية التي هي صفة نفسية مهمة للمسلم. وفي حال أخذ المسجد من المسلم حظَّه المناسب من التركيز النفسي والحضور القلبي، فإنه يؤثر بعمق في صاحبه؛ ولذلك جاء في الحديث النبوي الثناء على من تعلق قلبه بالمساجد. وأما الوظيفة الثقافية للمسجد، فتأتي من خلال الخطب والدروس التي تُلقَى فيه، وإحدى هذه الخطب واجبة الحضور والإنصات، وهي خطبة الجمعة، كما أن إمام المسجد يمثل مصدرًا للمعلومة الدينية للمصلين، فهو مرجعهم في الفتوى والمسائل الدينية. وأما الوظيفة الاجتماعية، فإن التقاء أهل الحي الواحد في المسجد من وقت إلى آخر، يعطي فرصة لاطلاع الناس بعضهم على أحوال بعض؛ ليظهر بهذا التشارك الاجتماعي والتكافل.
وأما وظائف المسجد التي تظهر حسب الحاجة، فهي ما نراه في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما زاد على الوظائف الثلاث السابقة، ومن ذلك: الوظيفة التعليمية التي تؤديها المدرسة والجامعة في عصرنا، ففي حال عدم وجود مؤسسات خاصة للتعليم، وحتى في حال سيطرة جهة سياسية أو اجتماعية على التعليم ومؤسساته بصورة سلبية، يمكن أن يكون المسجد متنفسًا للتعليم الصحيح. وكذلك الوظيفة السياسية للمسجد ليست وظيفة أساسية له، بل دعت إليها الحاجة في بدايات الإسلام، فإذا ظهرت المؤسسات الخاصة، كانت أولى بها.
وقد كنت قبل زمن طويل متحمسًا -مثل كثير من الناس- لتوسيع دور المسجد حتى يشمل أكبر قدر من الوظائف المؤسسية والأنشطة الاجتماعية تشبهًا بالعهد الأول للإسلام، إلى أن لفت نظري أحد أساتذتي إلى أن هذا الوضع كان قبل أن تنشأ في الدولة الإسلامية مؤسسات متخصصة بهذا النشاط أو ذاك، فكان المسجد مكانًا للقاء الوفود السياسية وإقامتهم أحيانًا، وتُقسَّم فيه المنح والعطايا، وتُجمَع فيه غنائم الحرب، وغير ذلك.
– كيف يمكن لتفعيل دور المسجد محاربة التطرف بجميع أنواعه؟
التطرف خروج عن حد الاعتدال إلى ناحية التشدد والتضييق، وهو قضية مركبة في الحقيقة؛ وذلك أن غياب أدوار بعض المؤسسات والهيئات أو مصادرة وظائفها يؤدي إلى التلقي غير الصحيح للمفاهيم الدينية والوطنية والعرقية وغيرها من صور الانتماء، فنقع إما في التفريط أو الإفراط. والمسجد أحد مصادر الخطاب الديني، وبقدر ما يكون هذا الخطاب علميًا ومستقلا عن ذوي الأغراض الخاصة (سواء كانوا أنظمة سياسية أو جماعات أو أحزابًا ذات أهداف خاصة معزولة عن المصالح العامة للناس)، فإنه يقدم المفاهيم في صورتها الصحيحة بعيدًا عن التطرف، وكذلك بعيدا عن التمييع.
ولابد من الالتفات إلى أن للتطرف – الذي يظهر في كل المجتمعات البشرية تقريبًا – أسبابًا خارجية أيضًا، وفي مقدمة هذه الأسباب بالنسبة للمسلمين الآن: الهجوم غير المسوَّغ على الإسلام ومقدساته من وقت إلى آخر بصورة لا أخلاقية. وإن كنا نقول إن من وظائف المسجد في مثل هذه الأحوال أن يرشِّد رد الفعل الإسلامي، ويوجهه إلى ما فيه نتائج واقعية تؤثر في هذا الموضوع فعلا، فإنه ينبغي أن ينتقد مثل هذه الحماقات التي تهاجم دينًا لا تعرفه ولا تفهم حقيقته السامية.
– ألا يمكن القول: إن تهميش دور المسجد هو أحد الأسباب الأساسية التي أدت إلى التراجع الحضاري لدى الأمة الإسلامية؟
حصر هذه المشكلة الكبيرة في تراجع دور المسجد لا يعطي صورة صحيحة للتحول الكبير الذي حصل في حياة المسلمين خلال القرنين الأخيرين؛ فنحن نعرف أن الحياة في العالم الإسلامي تقوم على الأسرة والمسجد والمدرسة وجماعات العلماء والمفكرين والحكومة، ومن أدواتها: القدوة والكلمة المنطوقة والمكتوبة والقانون، فإذا رجعنا بالمشكلة إلى عنصر واحد فقط منها لم نكن منصفين، وافتقد حكمنا الدقة المطلوبة في مثل هذه الأمور؛ لذا أقول: إن تراجع أدوار هذه المؤسسات، ومنها المسجد، وتأثير بعضها في بعض سلبًا هو الذي أدى إلى التراجع الحضاري في العالم الإسلامي.
– هل من اللازم اعتبار المسجد نواةً أولى للمؤسسة السياسية في الدول الإسلامية؟
لا أرى هذا تحديدًا، ويمكن أن يكون حكمنا أعم من ذلك، وهو أن المسجد هو أصل المؤسسية كلها في المجتمع المسلم؛ أعني أن كل مؤسسة بعده قد تفرعت عنه، وينبغي أن تكون على صلة حسنة به؛ فالأسرة والمدرسة والجامعة وجماعات العلماء والمهنيين والحكومة؛ كل هؤلاء ينبغي أن يكون لهم تواصل جيد مع المسجد، وأن يساعدوا على أداء وظائفه الأساسية بالصورة المثلى. وسبب أبوَّة المسجد لغيره من المؤسسات في البيئة الإسلامية ترجع أولا إلى ناحية تاريخية، وهي أنه أول مؤسسة بناها المسلمون بعد الهجرة، وثانيًا أن الخطاب الإسلامي الذي يتولى المسجد بثه هو خطاب عام يتعلق بحياة الناس والأمم الروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
– في نظركم ما الإستراتيجيات الممكنة التي يجب على المسجد تبنيها بالنظر إلى أنه مؤسسة لاستقطاب الأجيال الناشئة وتحقيق توازن الأمة الإسلامية؟
تعجبني في هذا المجال التجربة التركية التي أعاينها في مساجد إسطنبول مباشرة؛ وتقوم على تحمل وجود الأطفال بالمساجد في أي وقت؛ برغم ما قد يصدر عنهم من حماقات مألوفة منهم في كل مكان، ومعالجة مخالفاتهم الفادحة بشيء من الصبر والحكمة؛ حتى يعتاد الطفل المساجد من صغره، ولا ينفر منها، ومع الوقت يتعلم أدب التعامل مع المسجد. كما افتُتحت ملاحق ببعض المساجد للعب الأطفال، وسُمح لهم بلعب كرة القدم وغيرها في الساحات الملحقة بها. وفي الصيف يتحول المسجد إلى خلية نحل لتعليم الأطفال حروف العربية وتلقينهم شيئًا من القرآن وأحكام العبادة. وتُجرَى لهم مسابقات ينالون عليها جوائز مشجعة. ومن وقت إلى آخر تضيف الوزارة المسئولة عن المساجد أفكارًا من هذا القبيل تخدم أصحاب هذه المرحلة السنية المهمة.
– هل تختلف وظيفة المسجد بالدول الغربية عنها في البلاد الإسلامية؟
بالطبع لابد من مراعاة البيئة التي يكون فيها المسجد حتى نفهم وظيفته، وفي البلاد الغربية تحديدًا أرى أنه ينبغي أن يقوم المسجد بدور متوازن ومزدوج بين المسلم والدولة التي يقيم فيها؛ بقطع النظر عن كون هذا المسلم مواطنًا أصليا من هذا البلد أو متجنسًا أو حتى أجنبيًا مقيمًا بصورة مؤقتة؛ فكلهم يقفون في الصلاة في صف واحد، وكلهم يصومون الفرض في شهر واحد، وهكذا. وهذا الدور الذي أشير إليه يتمثل في حفظ خصوصيات المسلمين من جهة، مع تمتين صلتهم بالسياق الاجتماعي الذي يعيشون فيه من جهة أخرى، وفي هذا الإطار يمكن صياغة أفكار جيدة وفاعلة تعمل على هذين المحورين؛ مثل: الاتفاق مع المدارس على إقامة دروس دينية خاصة للطلاب المسلمين في مدارسهم، والسعي إلى تدريس الإسلام في الدول التي لم تخطُ هذه الخطوة حتى الآن، والتعاون مع الكنائس وغيرها في بعض النشاطات الاجتماعية المفيدة للمواطنين، وغير ذلك.
– ما المسئولية الملقاة على عاتق المسجد في تصحيح صورة الإسلام؟
الخطاب الأساسي للمسجد موجَّه إلى المسلمين؛ فهم الذين يحضرون الصلاة فيه، وهم الذين يترددون عليه في المناسبات الدينية الأخرى، ومن هنا يمكن أن يلفت المسجد نظر المترددين عليه إلى واجب السعي إلى تقديم صورة صحيحة وحسنة للإسلام لمن يختلطون بهم، وأول وسيلة إلى هذا: الأخلاق الحسنة، ثم الحوار وحتى الجدال بالحسنى، ثم دعوة الآخرين إلى القراءة عن الإسلام في كتب تحكي بصدق وأمانة حقيقة الإسلام.
وقد يسهم المسجد في هذا جهود التعريف بالإسلام بشكل مباشر بما يقيمه من معارض تعريفية بالإسلام، وتوزيع كتب محتصرة وموسعة لنفس الغرض، والمشاركة في التعريف بالإسلام خلال وسائل الإعلام بمختلف صورها.
– ما الأسباب الحقيقية لغياب فاعلية المسجد سياسيًا في البلاد الإسلامية؟ وما الحلول التي ترونها لهذا الوضع؟
للأسف الفاعلية مفقودة في كثير من مؤسسات العالم الإسلامي، ومنها المسجد؛ فمع أن أغلب بلاد العالم الإسلامي تملك ثروات بشرية شابة ضخمة وقادرة على صناعة نهضة حضارية عامة، إلا أن مصادرة كل شيء في حياة المجتمع لصالح السياسة قد حال دون تقديم تجارب إسلامية ناجحة في عصرنا هذا، كما أن تفتتًا اجتماعيا عميقًا تعاني منه المجتمعات الإسلامية لصالح توجهات فكرية وعرقية وثقافية دون أخرى يدعم هذه الحالة السلبية.
والخروج من هذا الحالة بالنسبة للمسجد وغيره من المؤسسات يحتاج إلى جهود صبورة متراكمة؛ تبني المعرفة والأخلاق بناء صحيحًا، وتحقق الفاعلية الاجتماعية لدى المصلين بحيث يكونون رسلا إلى بيوتهم وأصدقائهم؛ حتى تعم هذه الرسالة أكبر قطاع في المجتمع. ومع هذا، فإنني لا أؤيد أن يوظَّف المسجد في أي صراع سياسي داخلي، وعلاقة المسجد بالسياسة هي توضيح المواقف الإسلامية المتعلقة بهذا النشاط الإنساني.
– ألا يمكن القول بأن هناك تزييفًا وتشويهًا لدور المسجد في العالم الإسلامي؟
بقدر ما تكون المؤسسة الاجتماعية فاعلة -سواء أكانت ذات صبغة دينية كالمسجد أم لا – فإن القوى النافذة تحرص على استتباعها، وربما توظيفها لتأدية أهدافها، وهذا يبدو طبيعيًا؛ لأن الشخص المستقيم سيحرص على توظيف المؤسسات المؤثرة لخدمة صلاحه، والفاسد سيفعل مثل هذا لخدمة فساده، وإن لم يقدر على هذا خرب عمل هذه المؤسسة أو أغلقها. والحاصل أن المساجد ليست معطلة في هذا الزمان، لكن جانبًا من عملها موجه لخدمة أوضاع سياسية واجتماعية سلبية.
– هل يمكن القول: إن النهوض بفاعلية المسجد وإحياء وظيفته الاجتماعية من شأنه توحيد الأمة الإسلامية وتقويتها؟
المسجد ما لم يكن القائمون عليه منحرفين عقديًا وخارجين عن أصل ثابت في الدين، وهو أمر نادر، فمن المفترض أنه يدعم – حيث كان – نفس المفاهيم والتوجهات تقريبًا، ومنها تحقيق التقارب بين المسلمين؛ لأن الإسلام يجعل للأخوة مستويات؛ أولها الأخوة الدينية، ثم الأخوة الاجتماعية، فالأخوة الإنسانية، ومن شأن هذا أن يخدم بالتراكم كل مستويات التقارب الإسلامي الأخرى. وأزعم أن أغلب شعوب المسلمين ترغب في هذا التقارب بين الدول الإسلامية، ولكن ليست هناك إرادة سياسية لهذا مع الأسف.