مصعب البدور
في ثاني أيام الشهر الفضيل، أحببت أن أتحدث لكم عن حقيقة ممتدة ومتأصلة، جذورها عميقة. ولأنني لست واعظًا ولا أحب ممارسة دور الواعظ، اقترحت على نفسي أن أحدثكم عنها دون أن أقدم توصية، إنما اكتفيت بالوصف.
هذه الحقيقة المنتشرة هي “حقيقة الغباء”.
ما يثير في الغباء هو أن له حضورًا في كل مسار: حضور عند المتحدثين وحصة كبرى عند السامعين. وهو كبير الانتشار وسهل التقبل. وقد أعجبني مثل هولندي يصور الغباء تصويرًا يعبر بصدق عنه: (للغباء جناحا نسر وعينان بوم)، يطير عالياً ويرى في كل الاتجاهات. الغباء ليس عقبة فحسب، لكنه طريق الخطيئة. يقول بونهوفر: (لا توجد خطيئة عدا الغباء) لأن الغباء يقود إلى كل خطيئة.
من مظاهر الغباء في حاضرنا:
يطل علينا في كل يوم شخص متحدث، وفي الوقت ذاته طليق اللسان، وهذا لا يمنع كونه غبيًا، تبعًا لقانون كارلوم شيبولا (احتمال الغباء لدى شخص محدد ينفصل عن أي صفات أخرى لدى هذا الشخص، أي أنه لا يرتبط بالصفات الأخرى).
ولا يخفى علينا ما تصدره الشاشات وبرامج البودكاست: من مضحك وغبي، أو اقتصادي وغبي، أو إعلامي وغبي، أو واعظ وغبي، أو سياسي وغبي أيضًا.
وهذا ينسحب على وجود مُشاهِد ضاحك وغبي، أو مُستمتع وغبي، أو مُركّز وغبي.
إن هذه الدائرة لا متناهية ولها أشكال عدة في حياتنا اليومية، فلو تتبعنا المتطوعين للحديث في قضايا الأمة ومجريات وطننا العربي الكبرى، ستجد بعضهم مثالًا واقعيًا عمليًا لتعريف شيبولا للغباء أو للغبي إذ يقول: (إن الأشخاص الأغبياء يتشاركون بملامح تعريفية متعددة؛ إذ إنهم كثيرون، وغير عقلانيين، ويتسببون في مشكلات للآخرين دون أن تكون لهم أدنى منفعة، وبالتالي، يسهمون في تراجع الصالح الاجتماعي العام).
ومن الأمثلة الواقعية لهذا التعريف، أحد متصدري الفتوى عبر الشاشات وصاحب مقاطع الريلز الرائجة، وإن كان قد بيّنَ كثير من الباحثين إدعاءه، ووضحوا كم الأيمان غير الصادقة التي يقسمها في بعض أمور الفتوى وكونها إجماع الأمة وهي من نسج عقله.
تراه بعد هذا كله مسموع الكلام واسع الأقوال، وفجأة يستطرد معلقًا على الأحداث الساخنة، مشنّعًا على المظلوم، مدعيًا لنفسه تكامل الدين، حاكمًا على معتقدات الناس. ويا ليتَه فكّر للحظة ليعرف أن كلامه ضرر محض على الأمة.
ومن الأمثلة الواقعية على التعريف السابق للغبي وتحديد أوصافه أيضًا السامع المروّج لكلامه، وكذلك السامع المدافع عنه.
ومن الصور التي يجب أن نتخلص منها في مجتمعنا (التوقعات العالية): إن رفع سقف توقعاتنا بالأشياء والأشخاص يسبب لنا دوماً الصدمات النفسية والردود الانفعالية وردات الفعل غير المتوقعة.
وخيبة الأمل التي أصابت الناس من مفتي أو قارئ أو اقتصادي أو سياسي، كلها نابعة من التوقعات والجهل.
أخيرًا، لا بد من فهم أن الغباء من أشد الصفات خطورة على الحياة اليومية، وذلك لأن هذه الصفة ممكنة في كل الأماكن والرتب. وهذا يتفق تمامًا مع قانون شيبولا الخامس الذي ينص على (الشخص الغبي هو الأكثر خطورة على الإطلاق).
وتتلخص الكارثة بأن الغباء لم يُكتشف له علاج حتى هذه اللحظة. أخيرًا، نتمنى من الله العلي القدير أن يمن عليكم بشهر رائق كله طاعة وسكينة وخير.





