الكاتبة: لبنى الفلاح*
*صحفية مغربية/ مديرة نشر صحيفة الحياة اليومية
«اليوما الأحد ماشي 5 دراهم، 4 داهم وكيلو ونص بمية د ريال وجوج كيلو بمية وعشرين. المفاجأة بِيْعَرْفُو الناس د المغرب كامل الباطرون ديالي أنا؛ مول الشِّي ديالي أنا، ها هو مفاجأة (يخرج طفل صغير يردد الحوت 5 دراهم وسط تصفيقات وزغاريد المشترين). مابقاش عندنا الضمير مالين الحوت وَلْفُو الفلوس كثيرة. وَا ديالي هذا بغيت نصدقو أنايا حتى تديه لمحالك وقول اللي بِيتِي، أنا فمحلي نقول فيه اللي بِيتْ. السردين ماشي 5 درهم 4 دراهم بينا المنافسة ماشي الشريفة الشرسة..»، انتهى كلام «الجابوني» أمام زغاريد وتكبيرات زبنائه من النساء والرجال على حدٍ سواء.
من الجابوني؟ الأمر لا يتعلق هنا بقادر الجابوني نجم الراي الجزائري، بل بابن مدينة مراكش واللكنة المراكشية بادية على لسانه الدارج. «عبد الإله الجابوني» هذا، تحول من نجم في «التيك توك» بروتين يومي إلى نجم مؤثر في ضبط الأسعار، حتى صار منَّا من يدعو إلى تعيينه على رأي مجلس المنافسة ما دام هذا المجلس الذي تضخ فيه الملايين سنويا، قد فشل في إيجاد حلٍّ لملف ارتفاع أسعار المحروقات بمحاباة اللوبي المُتَغول على جيوب المواطنين بدل كبح جشعه.
يقول الشاب وهو يعبر عن مَقْتِهِ: «خوتي المغاربة الضغط كثير علي، باراكا. الحوت عرفتوه بشحال تايتباع. أنا آخر يوم لي فبيع الحوت صافي البصمة ديالي خليتها ليكم الحوت ها باش تايخرج. سالا عبد الإله من الحوت، اليوم لَخَّرْ فبيع السمك لعبد الإله. هادشي كثير علي من طرف بزاف د الناس. ضغط كبير مانقدرش نزيد صافي اللي علي وريتكم شحال داير. باراكا»، من جديد يصفق زبناء «عبد الإله الجابوني» وهو يتحدث عن الضغط الذي تعرض له، الضغط ممن؟ لم يذْكُر.
بحسب الفيديوهات المتداولة، فقصة «الجابوني» بدأت من منصة مشاركة الفيديوهات القصيرة «التيك توك » واستمرت إلى منصة بث الفيديوهات «اليوتوب». وبحسبه فسعر كيلوغرام واحد من سمك السردين هو خمسة دراهم والثمن قابل للانخفاض إلى ما دون ذلك وبأسعار تفضيلية خلال عطل نهاية الأسبوع، فيما أصحاب السوق وهم تجار التقسيط يقولون إن الأمر ضرب من الخيال وإن سمك الخمسة دراهم لا وجود له إلا إذا كان مشكوكا في جودته، خاصة أن الأمر يرتبط بفترة يُطلق عليها الحْوَاتَة بـ«الموفيتا».
فكرة الجابوني في خلخلة أسعار السوق قبيْل شهر رمضان في حد ذاتها فكرة ذكية، لماذا؟ لأن المواطن العادي صدق بل وأيقن بأنه يمكنه أن يشتري سمك السردين بخمسة دراهم، وبعيدا عن جودته فالثمن مغري للجميع في ظل عدوى غلاء الأسعار.
ماذا ربح «الجابوني»؟ في كل الأحوال «عبد الإله الجابوني» هو الرابح في هذه الهَلُمَّة الكبيرة التي أظهرت جشع «الشناقة» والمضاربين وفشل «حكومة الكفاءات» في ضبط السوق، ما دام هو المتحكم في عملية الشراء من المنبع والبيع للمستهلك والتوزيع وكيفية التسويق للمنتَج، ومن منا يصدق بأن كيلو سردين بخمسة دراهم فقط في مدينة بدون بحر، في الوقت الذي تراوح ثمنه ما بين 20 و30 درهما في مدن ساحلية كالحسيمة والرباط والدار البيضاء.
للجابوني طريقته في إيصال المُنْتَج إلى المستهلك؛ فقد اعتمد التسويق «الماركوتينغ Marketing» وهو أسلوب مميز يستخدم لتبادل السلع ذات القيمة مع الآخرين وطريقة إدارية أو اجتماعية تُستخدم في تحقيق كافة رغبات الأفراد بعد دراستها وابتكار طرق لتلبيتها. وبالتالي فمع الجابوني أصبح سمك الثلاثون درهما بـ5 دراهم فقط وسمك المئة درهم بـ50 فقط وتحول سمك الثمانون درهما إلى 30 درهما وهكذا، ليكون قد حقق رغبات المجتمع؛ فالمواطنون يرغبون في اقتناء سمك الفقراء بأقل سعر وسمك الأغنياء بأثمنة الفقراء، وطبعا هي طلبات مشروعة في ظل الغلاء الذي حلق عاليا بجميع المواد الاستهلاكية.
الملاحظ سيلحظ أن محلا تجاريا بسيطا وشاحنتان وهاتفا ذكيا وقناةَ على «اليوتوب» وحسابا على «التيك توك» كانت وسائل كافية لتقع الضجة وسط أصحاب السوق من تجار التقسيط وتجار بالجملة قبل المستهلكين، قبل أن تعود الأمور إلى نِصابها ويصبح «الجابوني» هذا مجرد «فقاعة إعلامية» مرَّت من هنا وانتهى بها المطاف بين مكاتب عامل عمالة مراكش ووالي جهة مراكش وعناصر السلطة المحلية، بينما المواطنون سيعودون أدراجهم بعدما انتهت الفرجة وانفض الجمع حول الحْلْقَة (فن شعبي بساحة جامع الفنا بمراكش)، إلى اقتناء سمكات معدودات بـ20 درهما دون أن يسألوا كيف ولماذا.
ما معنى الفقاعة الإعلامية؟ هي حدث إعلامي خاطف ومدروس بعناية ومُعد سَلَفًا، ما يلبث أن يزول كفقاعة صابون في الهواء. بين طيَّاتها، يصبح شخص أو شيء أو حدث ما أيًّا كان، محط اهتمام وشُهرَة واسعة بدون مقدمات؛ يصبح حديث الساعة كما يتمتع بتغطية إعلامية واسعة ومشاركاتٍ كبيرة على مستوى الشبكات الاجتماعية لخلق جوٍ عام وأرضية مناسبة لتمرير قرارات سياسية وإجراءات لا يمكن أن تطبَّق بسرعة إلا بعد تحضيرٍ مسبق ومدروس لها، وتجييش الرأي العام حولها لدعمها دون تفكير.
أسلوب الفقاعات الإعلامية ليس جديدا، فهو سياسة ثابتة ووصفة علاجية لها عناصر محددة تتَّبِعها الدول باستمرار لما تُحققه من نجاح مُتكرر، حيث التاريخ هنا يحفل بالفُقاعات الإعلامية التي تلتها قراراتٌ سياسية وحروب وتفجيرات.
عبر الفقاعة الإعلامية التي اندرث في سماء المغرب هذه الأيام أياما معدودة قبيل رمضان، ستتنصل الدولة من مسؤوليتها في غلاء الأسعار وسيتكلف المؤثرون دون دفعٍ مسبق أو عمل مؤدى عنه بإلقاء الثقل كله على التجار الذي سيجدون أنفسهم في مواجهة مع المواطنين، وإن كانت ظاهرة «الجابوني» هاته قد حرَّكت المياه الراكضة وأظهرت الغبْن العميق الذي يعيشه المواطنون، هؤلاء الذين تبين أنهم مستعدون للتبعية بضغطة زر، وبأن مقطع فيديو من ثوانٍ كفيل بتجييش الجماهير.
وإذا عدنا خطواتٍ إلى الوراء سنجد أن السمك كان سببا في تأجيج الأوضاع بالريف في أكتوبر 2016، بعد واقعة الراحل محسن فكري الذي كان الشرارة الأولى لحراك الريف، بعدما تعرض للطحن في حاوية للأزبال أمام أعين السلطات، بينما كان يلْحق بسِلعته «سمك أبو سيف» الذي تم إتلافه في نفس الحاوية التي قضمت جسده إلى أشلاء.
هل يشبه الجابوني محسن فكري؟ طبعا لا. فالأول «فقاعة إعلامية» فيما الثاني «شخصية حِراكية» بامتياز.
ما بين الريف ومراكش مئات الكيلومترات، لكن أسباب الحراك من أزمة مركبة ومتعددة الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية مازالت قائمة في البلد، حيث الاحتقان الشعبي على أشدِّه؛ الكفيل بتحريك الجماهير للنزول إلى الشارع احتجاجا على الوضع القائم وعلى فشل المؤسسات والحكومة والحوار الاجتماعي وتمييع الفعل السياسي والارتجالية والغموض الذي يطبع المشهد السياسي، وما رافق ذلك من ارتفاع للأسعار وتنزيل قسْري للقرارات الحكومية وفرض الأمر الواقع بسلطة القوة وقوة السلطة، وطبعا المستفيد من هذه القرارات ليس سِوى أوليغارشية حاكمة تتحرك بعيدا عن المصلحة العامة.
في المغرب كما معظم الدول العربية التي تقف معنا على نفس الهامش المتردي من الحقوق والحريات وتضييق الخناق بواسطة القبضة الأمنية، تجد وعيا جماهيريا منظما ومؤطرا يتبلور تحكمه المصلحة الجماعية للمحتجين ولا أدَلَّ على ذلك الحملات الشعبية التي عرفتها البلد قبل صعود هذه الحكومة – أي في عهد حكومة البيجيدي سعد الدين العثماني -، أبرزها حملات مقاطعة منتجات شركات كبرى هي: «سيدي علي» و«سنطرال» و«إفريقيا غاز»، تلتها حملات المقاطعة للمنتوجات والشركات الإسرائيلية التي خاضها المغاربة إلى جانب الشعوب العربية والتي جاءت كرد فعل على اتفاقية «أبراهام» القاضية بالتطبيع مع إسرائيل وتنديدا بالمجازر التي يخوضها الكيان ضد الشعب الفلسطيني، ثم حملاتٍ لمقاطعة المواد الاستهلاكية من قبِيل حملات تحت وسم «خليه يْخناز» و«خليه يْقاقي»، والتي يشنها المواطنون بين الفينة والأخرى تزامنا مع كل موجةِ غلاء.
وبعيدا عن حملات المقاطعة ظهر ما يسمى بالحِراكات الاجتماعية في فجيج وطاطا وجرادة وتاونات وسطات وغيرها، وهي احتجاجات سِلمية منظمة – أكبر عددا وتنظيما – طالبت من خلالها الجماهير بالحقوق وبإصلاحات، وكان من بين شعاراتها المهيمنة: حرية، كرمة، عدالة اجتماعية.
هذه الحِراكات الاجتماعية هي امتداد عبر الزمان لحركة 20 فبراير التي عرفتها البلد بعد الدعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي للالتحاق بركب «ثورات الربيع العربي»، بعد أقل من أسبوع من الثورة المصرية، وأكثر من شهر على انتصار الثورة التونسية آنذاك ضد البطالة والتهميش والفساد والاستبداد.
الصورة حول ذلك الحلم؛ حلم حركة 20 فبراير قد تكون مضللة شيئا ما، لكنها توضح كيف أن الشعوب العربية ضمنها المغرب تحرّرت من عقدة الخوف، وأنها بالتكاثف الجماهيري والقبضات المرفوعة والهتافات الرافضة قادرة على التغيير لتحقيق الديمقراطية وإصلاح النظام السياسي، لتبقى انتفاضة 20 فبراير نارا تسري وعلى مَهَل تحت الجِلد.
ولعل «الجابوني» اليوم وإن كان «فقاعة إعلامية» هو الدرس الأكبر الذي يجب أن يفهمه السياسيون الحقيقيون ويعيه أهل الحل والعقد؛ فالغضب المتراكم لا يخضع للتضليل ولا لنظريات شراء الوقت واصطناع البطولات، وهو محركٌ لفوضى تستمد شرعيتها من صبر «معتّق». ولعل البُسطاء والفقراء والصامتين هم أكثر الناس حِكمة وتمسكا بالوطن لكنهم أكثرهم غضبا حين يكتشفون بأنهم يغرقون في رغوة من فقاعاتِ التضليل والخيال؛ هذه الأغلبية الصامتة التي تفهم ما يجري لابد ستخرج عن صمتها في موقف ما وفي لحظة ما، وهو ما يوجب على المسؤولين اليوم قبل الغد الالتفات إلى هؤلاء خلال شهر رمضان؛ فالنفوس المُتْعبة قد تفقد صبرها وتخرج عن صمتها في ظروف غير متوقعة وسنكون وقتها أمام نقطة الصفر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف.





