تعدد الرحيل في ” أرحيل”

إيطاليا تلغراف

 

 

 

د. الحبيب ناصري

 

 

من الأفلام الوثائقية المتوجة في الدورة 25 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، فيلم “أرحيل” لمخرجه سيدي محمد فاضل الجماني. فيلم، تمكن، مخرجه من قول العديد من قوله/رحيله، بلغة الصورة، أكثر من لغة الحوار (بعد سينماتوغرافي/جمالي). منذ البداية نصبح جزءا من الفيلم. يأسرنا المكان. تأسرنا الصحراء، ونحاول التماهي معها. نصبح جزءا من الرحيل. نستحضر بدورنا العديد من أشكال الرحيل الذي عشناه واقعيا وتخييليا.


الفيلم، يؤكد، وعي مخرجه بقيمة/تيمة الرحيل في الثقافة الصحراوية ككل. في الحقيقة كنا أمام العديد من أشكال الرحيل. رحيل الرمال/رحيل الإنسان/رحيل العادات/ رحيل الحياة/ رحيل الموت/ رحيل الكائنات الحيوانية/ رحيل مكونات الصحراء الطبيعية/ الخ (الرحيل من أجل الحياة ومقاومة اللاحركة/الموت)..
حضرت ثنائية الحياة والموت. الولادة؟ ولادة الحياة من ألم/أمل المرأة (الأنثى التي تهب حياتها للغير). بفعل الولادة، يتحقق فعل الاستمرارية في نفس الفضاء. الفضاء، هنا، هو الصحراء. ليس مجرد مكان جغرافي هندسي، بل هو المكان الذي تحول إلى فضاء، وكأنه”تمرد” عن مخرجه، ل”يستقل” بذاته، بل ول”يمارس” سلطته الفنية والجمالية والثقافية على المتلقي، ومهما كانت مرجعيته الثقافية، شعبية أم عالمة، محلية أم أجنبية. بكل تأكيد فالفضاء الصحراوي، حمى حلم من عاش فيها. حمى نجوم السماء وزرقتها وحبيبات الرمال الراحلة دوما. داخلها، تشكلت رؤية الذات لذاتها وللعالم وللآخر. إنها ليست مجرد مكان عاد، كبقية الأمكنة. من الممكن البحث في مكون الصحراء لوحده في هذا الفيلم، ووفق العديد من الرؤى الفلسفية، وفي مقدمتها طبعا، رؤية الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، في مؤلفه، “جماليات المكان”.
الصحراء، إذن، في “أرحيل”، هي شخصية آدمية (على الرغم من بعدها غير الآدمي). فهل “تمردت” الصحراء في هذا الفيلم لتحكي حدوثتها بنفسها، ومن خلال فعل الزمن فيها، بل ومن خلال تفاعلها مع الإنسان والحيوان وبقية المكونات الطبيعية؟.
المخرج، ووفق ما سبق، مدرك لقيمة المكان/الفضاء (هو ابن الصحراء ومتشبع بثقافتها)، وهو ما جعلنا نشعر بالفعل بقيمة اللقطات الموظفة في الفيلم، وطبيعة صوت الصحراء الخام (صوت له بنية إيقاعية)، والوجوه التي تميزت بلغة الصمت، واستحضار العيون المراقبة لفعل الرحيل، بل العيون الراحلة وهي جالسة في مكانها… عيون أسرتنا، جماليا، وجعلتنا نستحضر العديد من المتون الشعرية الشعبية والفصيحة، لنقارن بينها وبين عيون نساء الفيلم، خصوصا الأم الحامل بالحياة وبالجمال؟… بل من خلال الفيلم تمكنا من القبض على العديد من أشكال اللذة (كما شرحها لنا رولان بارت).
بكل تأكيد، ونحن “نتلصص” ونبحث عن تفاصيل حياتية في هذا الفيلم، الذي سكنته الصحراء، وسكنتنا نحن بدورنا كمتلقين، نكون أمام فيلم فيه بعد إبداعي، بل فيه جهد اجتهادي على مستوى توظيف الصورة وما أتاحته من لقطات، عامة، مموقعة للمكان/الفضاء، ومقربة، تغلغلت في عوالم الشخصيات (الآدمية وغير الآدمية)، لتقربنا من أحوالها وشطحاتها الداخلية/الوجدانية، وفق ماتخيلناه نحن كمتفرجين، وليس فقط وفق ما سعى إليه مخرج الفيلم.
“أرحيل” صوت سينمائي مكاني/إنساني، سيسكن كل من شاهده، بل سيتحول لديه إلى “وثيقة” بصرية، تخلخل سيرنا نحو عولمة موحشة (حضارة اللامعنى)، وتفرمل بطشنا وهروبنا من الأمكنة الطبيعية الهادئة والحمالة للعديد من الحكايات/المعاني الجميلة … هو صيحة ثقافية شعبية إنسانية بلغة الصورة/الأنتروبولوجيا. فيلم “يسوق” بصريا، جزءا من ثقافتنا الصحراوية بلغة السينما وليس بلغة الروبورطاج..
بدورها الخيمة والناقة، هذه الثنائية الأدبية والفنية والثقافية الشعبية، جعلتنا، نوقف زمننا الفيلمي، ونستحضرها من خلال العديد من النصوص الشعرية العربية العالمة والشعبية.
لم يكن الفيلم، مجرد حكاية، تغيا صاحبها، أن يحكيها كما حكيت العديد من الحكايات الصحراوية، بل هو أيضا لغة فنية انتصرت للسينماتوغرافيا، وللغة الجمال الذي تنهض عليه الصحراء، كمكون هوياتي ثقافي شعبي، يقاوم “قبح” الحضارة السائلة التي بضعت وضبعت وعلبت ما تبقى فينا من حياة شعبية عفوية خالية من التكلف المميت. فيلم تمرد أيضا عن الصورة/التمثلات التي رسخت في عيوننا/أذهاننا عما تجود به عيون من اشتغل على الصحراء، من زاوية إبداعية ما (لها صلة بالصورة).
إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...