بقلم: د. علي محمد الصلابي
رسم الله سبحانه وتعالى ملامح الحياة في الجنّة والنعيم الدائم بأكمل وأعلى صوره في الآيات التي وصف بها الجنّة، والتي وُعد بها آدم عليه السلام في سورة طه، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ [طه:119،118]، حيث الأمن من الجوع والعُري، والظمأ والحر، وهي أركان الكفاية التي تقوم عليها راحة الإنسان في دنياه وآخرته. ويكشف هذا النص القرآني بعبارته الموجزة عن عمق التوازن بين حاجات الجسد والروح، وظاهر الإنسان وباطنه، في تصويرٍ بليغٍ يجمع بين الجمال والمعنى، ومن خلال تأمل أقوال المفسرين والبلاغيين، يظهر كيف عبّر القرآن عن تمام النعيم ونفي أسباب الشقاء بأسلوب يجمع بين الإعجاز اللغوي والدلالة الإنسانية العميقة.
فقد بين الله سبحانه وتعالى بهاتين الآيتين أن في الجنة كل ما يطمع فيه الإنسان من حياة هنية فيها كل مرافق قوامة الآدمي من أكل وكسوة، وشرب وإقامة، وفي ذلك إشارة إلى ما يجب أن يطلبه، فإذا كُفي هذا فقد أوتي الدنيا بحذافيرها، فإن وراء المطامع الأخرى من جاه وسلطان وتحكم المصارع كما قال عليّ رضي الله عنه: مصارع الرجال تحت بروق المطامع.
ومعنى الآيات: أنك تجد كفايتك في الحياة فتجد الطعام الذي تأكله واللباس الذي يقيك العري والماء الذي تشربه والسكن الذي يؤويك وحسبك ذلك وكفى (1). وقال البيضاوي في هذا النص القرآني الكريم: إنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن، مستعيناً عن اكتسابها والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ليطرق بأصناف الشقوة المعذر عنها (2).
أي أنه ذكر هذه الكفاية وهي الطعام والكسوة والشراب والمسكن بصيغة النفي، لأن عدمها هو موضع التحذير والمنع، ولأن عدمها هو الشقاء في الجنة، وقد نفى بذلك أنه لا يشقى في الجنة إنما الشقاء في غيرها، وإبليس العدو يعمل على شقائكما وكدحكما، إذ أخرجكما من الجنة فلا تطيعاه، وقد أشرنا إلى أن هذه الأمور بجب أن تكون مطلبك يا آدم، وإن في طلب غيرها التناحر على البقاء، ومعه الشقاء، وهذه موعظة لمن أراد جنة الدنيا دون شقائها وفي الآيتين من أساليب البيان، فذكر المطلب الأساس للإنسان “إن لك” مؤكداً أن له الأكل والكسوة والشراب والمأوى، هذا لك وحده ليس لك غيره، وفي الجنة، ويجب الاقتصار عليها في الحياة التي تستقبلك (3).
وفي الآيات: مقابلة بين الجوع والعري دون الجوع والظمأ، وبين الظمأ والضحى دون الظمأ والجوع، فإن الجوع عري الباطن وذله، والعري جوع الظاهر وذله، فقابل بين نفي ذل باطنه وظاهره، وجوع باطنه وظاهره، والظمأ حر الباطن، والضحى حر الظاهر فقابل بينهما (4).
وقال ابن القيم: تأمل كيف قابل الجوع بالعري، والظمأ بالضحى والواقف مع القالب، ربما يخيل إليك: أن الجوع يقابل بالظمأ والعري بالضحى والداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة، لأن الجوع ألم الباطن، والعري ألم الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهراً وباطناً (5).
وفي هذه الآيات راعى الله عز وجل فيها جانب المعنى لأن الجوع خلو الباطن عن الغذاء، والتعري خلو الظاهر عن الثياب، و”الظمأ” احتراق الباطن بالحرارة، “والضحى” احتراق الظاهر فظهرت المناسبة من حيث المعنى فيها (6).
وتتجلى في هاتين الآيتين حكمة الخالق في بيان كفاية الإنسان وتمام نعمته، إذ جمع الله لآدم أسباب السعادة الدائمة ونفى عنه كل مظاهر الشقاء، فهي دعوة للتأمل في أن الكفاف أساس النعيم، وأن الطمع فيما وراءه سبب العناء، ومن فهم ذلك عاش جنة الرضا في الدنيا قبل الآخرة.
المصادر والمراجع:
1. زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة، 9/4799.
2. المرجع نفسه، 9/4799.
3. المرجع نفسه، 9/4800.
4. بدائع التفسير، ابن القيم، 3/170.
5. بدائع التفسير، ابن القيم، 2/170- 3/240.
6. المصدر نفسه، 3/171.
7. علي محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، ط1، دار ابن كثير، 2020، 908-921.





