اللغة والذاكرة: جدليّة التفاعل بين تمفصلات العربيّة والأمازيغيّة في طوبونيميا المكان المغربي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار

 

 

لا تُمثِّل الأسماء المركبة للأمكنة، مثلا: “تِيط مليل”، “بئر أنزران”، و”عين أسردون” مجرد دلالات مكانيّة وظيفيّة، بل هي نصوص ثقافيّة مكثَّفة تنطوي على جيولوجيا تاريخيّة وطبقات ح متعددة.
إنها شواهد أركيولوجيّة لغوية على تعالق وتمازج حيوي ثقافي بين: العربية والأمازيغيّة.
إلا أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا: أليس هذا “التمازج” الظاهري، في عمقه، سجلاً ليس للتعايش والتضامن والتكامل والتمازج والتآزر؛ السلمي فحسب، بل أيضًا لعلاقات قوة، ومساومات هوياتية، وتاريخ من الصمت والإصاخة؟
إن تحليل هذه الطوبونيميا يتطلب تجاوز المعجم إلى تفكيك البنى الذهنيّة والاجتماعيّة التي أنتجتها.
– أولاً: التداخل اللغوي: سجل تاريخي أم سيرورة هيمنة مقنَّعة؟
يشير التركيب الهجين (عربي-أمازيغي) في هذه الأسماء إلى لحظة تاريخيّة انتقاليّة، لم تكن فيها الهيمنة اللغوية قد استقرت بشكل نهائي.
فالعربي الوافد، وهو يسمي الفضاء، لم يمحُ الكلمة الأمازيغيّة تمامًا، بل احتفظ بها كمركب إضافي، بينما احتفظ هو بالجزء الدال على المصدر الأساسي (“بئر”، “عين”). هذا يثير إشكالية بالغة الأهميه:
هل كان هذا الاندماج تعبيرًا عن تكافؤ ثقافي، أم أنه يعكس ديناميكيّة حيث احتفظت اللغة المهيمنة (العربية) بـ”وظيفة التحديد العام” (الجنس)، بينما حُشرت اللغة الأصليّة (الأمازيغيّة) في “وظيفة التخصيص” (النوع)؟
إن “بئر أنزران” (بئر المطر) و”عين أسردون” (عين البغل) ليست مجرد تسميات، بل هي نتاج عملية تفاوض رمزي على تملك الفضاء.
فالعربي قدم المفهوم العام للمصدر المائي، بينما احتفظ الأمازيغي بالحدث الطبيعي (المطر) أو العنصر الوظيفي اليومي (البغل) المرتبط به.
ألا يمكن قراءة هذا على أنه تمثيل لغوي لعلاقة “المركز” و”الهامش”؟ حيث يحدد المركز الإطار العام، بينما يزود الهامش التفاصيل المحليّة، محتفظًا بجزء من ذاكرته تحت مظلة اللغة الجديدة.
– ثانياً: البُعد الرمزي: الماء والذاكرة المائيّة المستعصيه
في “تِيط مليل” (العين البيضاء)، يتجلى عمق الرمزيّة الأمازيغيّة المرتبطة بالماء.
البياض هنا ليس لونًا فيزيائيًا فحسب، بل هو تجسيد للنقاء والطهارة، مما يحوِّل النبع من مجرد مورد مادي إلى كيان طقوسي وثقافي. هذا يفتح الباب لتساؤل نقدي آخر:
إلى أي درجة استطاعت الرمزيّة الأمازيغيّة العميقة المتجذرة في الطبيعي (الماء، الأرض، السماء) أن تقاوم عملية التعريب وتستمر في التشكُّل من خلال النطق العربي لنفس الفضاء؟
إن الاسم المركب “بئر أنزران” يقدم صورة شعريّة مذهلة تدمج بين “السماء” الأمازيغيّة (أنزران المطر) و”الأرض” العربية (البئر).
هذا الاسم، في تركيبيته، يخلق كونًا دلاليًا متكاملاً. لكن ألا يعكس هذا التكامل أيضًا ثنائيّة “الذكر” و”الأنثى” أو “الإلهي” و”الأرضي” في المخيال الجمعي؟
حيث تمثل السماء (الذكر، العطاء) التي تمنح الحياة للأرض (الأنثى، الاستقبال) المتمثلة في البئر.
وبالمقابل، فإن “عين أسردون” تربط المورد الحيوي بعالم الشغل والكدح وتحمل مشاق صعود مسالك ومنعرجات الجبال (البغل)، مما يخلّد ذاكرة اقتصاديّة واجتماعيّة للمكان كمحطة في شبكة تنقل أوسع، متجاوزةً بذلك الوظيفة الطبيعيّة إلى الوظيفة التاريخيّة والاقتصاديّة.
– ثالثاً إشكالية الهوية: التعدديّة في مواجهة النقاء الوهمي
تقف هذه الأسماء المركبة كأدلة حيّة على تعقيد في الهويّة المغاربية التي تتشكل من روافد متعددة. إنها ترفض بثبات منطق “النقاء” العرقي أو اللغوي.
فإذا كانت الهوية سرديّة، فما هي القصص التي ترويها لنا “عين أسردون” التي لا نعرف سبب تسميتها بالضبط؟ وأي ذاكرةٍ غامضة ومُهمَّشةٍ، أو حدثٍ ضائعٍ، يحمله اسم “البغل” هذا؟
هذه الطوبونيميا لا تمثل ماضيًا من التعايش فحسب، بل تطرح سؤالاً ملحًا عن الحاضر والمستقبل:
كيف يمكن قراءة هذه السجلات اللغويّة الهجينة في ظل خطابات هوياتية معاصرة تتصارع فيها حكايات سرديّة النقاء مقابل حكايات وسرديّة التعدد؟ أليست هذه الأسماء هي التجسيد المادي المبكر لفكرة “التنوع ضمن الوحدة” التي يتغنى بها المغرب الكبير اليوم؟
– الخآتمة: نحو أنطولوجيا طوبونيمية نقديّة
في الختام، فإن أسماء الأماكن المركبة ليست حفريات لغوية جامدة، بل هي كائنات حيّة تتنفس التاريخ والسلطة والرمز.
إنها تدفعنا إلى تبني “أنطولوجيا طوبونيمية نقديّة” تتعامل مع الفضاء ليس كوعاء محايد، بل كميدان للتشكُّل المستمر للهويّة.
هل يمكن لهذه الأسماء، في صمتها الظاهري، أن تكون منصة لحوار أعمق حول ذاكرتنا المائيّة، وعلاقتنا بالمجال، وتاريخنا الثقافي المركب؟
“تِيط مليل”، “بئر أنزران”، و”عين أسردون” ليست مجرد إحداثيات على خريطة، بل هي إحداثيات في وعينا الجمعي.
دراستها ليست ترفًا أكاديميًا، بل هي ضرورة لفهم كيف أن لغتنا، حتى في أبجديّتها المكانيّة، تحمل في طياتها جينات التعقيد والمقاومة الوجود والاستمراريّة، تلقي علينا عبء تأويلها المستمر، ليس كمتلقين سلبيّين، بل كشركاء فاعلين في كتابة الفصل القادم من سرديّة هويتنا المتشابكة.

نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...