عبد الحفيظ بن جلولي.
يشكّل كتاب “التداخل الأجناسي في التجربة الإبداعية لياسين عدنان” رؤية تتحدّد عند قارئِ المبدع ياسين عدنان وليس العكس، لن يضيف لك أي فائدة إذا أردت أن تتوقف عند الرّؤية الأكاديمية التي أطّرت الكتاب، متجاهلا تجربتك في قراءة ومسايرة تجربة عدنان، لأنّ فائدة هذا الكتاب أنّه يفتح نافذة تكثّف من ثقافية عالم عدنان الثقافي والإعلامي والشّعري والفكري، ولعل فكرة “التداخل الأجناسي” ذاتها تحيل إلى انفتاح النص من خلال ثقافة الكاتب وتجربته في الكتابة، ولقد تنبّه موريس بلانشو إلى هذه الحقيقة إذ أكد على إنّ “وحده الكتاب يهمّ، بما هو عليه، بعيدا عن الأجناس، وخارج خانات: النثر، الشعر، الرواية… فكل كتاب ينتسب للأدب وحده”.
لسان الوعي الإبداعي:
جاء في تقديم الكتاب أنّ عدنان ياسين “يكتب شعرا يستمد قوّته من الخاصية السردية”، و”كتب الرحلة شعرا أول مرّة” في “دفتر العابر” “قبل أن يتحوّل إلى السّرد” في “مدائن معلّقة”. يتململ عدنان ياسين داخل فضاء الكتابة كما لو إنّه يقف على خشبة مسرح، وهو ما حدث حين انتصب مؤدّيا حتى لا نقول ممثلا كما تعبّر حورية الخمليشي في مسرحية “المدينة لي” “لمسرح أنفاس المستوحاة جزئيا من قصائد” له.
فما معنى أن يتحوّل الكاتب إلى “مؤدٍّ مسرحيٍّ”؟ عدنان تحمّل مسؤولية الوقوف على المسرح ليتحدّث بلسان وعيه الإبداعي، وهو ما يمكّنه من تأثيث الحاسّة الابتكارية لديه بأداة الحركة والإصاتة، فمن ناحية نفسية خالصة قد يكون الهاجس التواصلي لديه مؤسَّسا على الحركة في مساحة وعي المتلقي والإفضاء إليه من عتبة المتخيّل قبل أن يصير نصّا، وهو ما يعني التشاركية الإنتاجية التي تنبّه إليها السّورياليون في جملة لوتريامون: “يجب أن يقوم الجميع بكتابة الشعر”، أي “جعل الشعر مركزا “للشراكة والتواصل والتشارك المجتمعي” بتعبير أوليفيه بيلان.
تشاركية الهاجس وإنتاج النص:
في قراءتها لرواية “هوت ماروك” تشير عتيقة السعدي إلى جانب ٍ مفصليٍ في انفتاح هذه الرّواية على مجالات أدبية متعدّدة، ومنها الشخصيات الأدبية “من مشارق الأرض ومغاربها”، وهي تعالج قضية ذات أهمية تتمثل في “البحوث المعدّة لنيل شهادة الإجازة”، تقول: “وهنا يتجسّد البعد الجمالي في إبداع الكاتب لنصّه، مستندا في ذلك إلى تجربته وتمثلاته للمحيط الأدبي”، فاستحضار شخصيات أدبية بما تمثله من محمولات رؤيوية وفكرية، تمثّل الأساس الجدلي لانفتاح النص على العالم من خلال القناعة الفكرية والإبداعية الذّاتية، التي تمكّن من تحويل المادة في ترسّباتها الفكرية إلى بداهة تخييلية تحمل العمق الرّؤيوي، لكن في جمالياته التواصلية السّردية، وهنا تأتي أهمية أعمال عدنان ياسين الطّالعة من تشارك هواجسه وأسئلته في العديد من البرامج الثقافية التي قدّمها في التلفزيون أو على النّت، فالحوار ليس سؤالا وجوابا فحسب، بل انتقال رؤى عبر جسور الوعي والوجدان، ويظهر ذلك في تعابير الوجه وحركات الجسد، إمّا في واقع المرسل أو المستقبِل، وهو ما يهيّئ القابلية الشّعرية أو السّردية لدى عدنان لتشكيل خميرة النّسيج الإبداعي القادم.
المضمر كأساس للتداخل الأجناسي:
يحيل أحمد قادم في قراءته للمضمر في رواية هوت ماروك إلى مفتاح الكشف عنه، وذلك بالعودة إلى مجايلة ياسين عدنان وحضور “حلقاته في جامعة القاضي عياض” ومعايشة “التدافع الطلابي والحزبي داخل الفضاء الجامعي”. يتأسس المضمر في النص لدى عدنان حسب أحمد قادم على الجامعة وخارجها، باعتبار المجايلة لا تعني فقط المرحلة التعليمية، فهناك عوامل المجايلة والتعليم والسياسة، فالمجايلة تنفتح على الحياة باعتبارها المختبر الأول الذي تنمّحي فيه الحدود بين الذّات والمعيش في تماسّاته مع الرغبة والميول والعلاقات، أما العامل التعليمي فهو الجامعة بما تمثله من تصوّر لمستقبل الذّات في انشطاراتها بين الحياة وما تتأمّله من الانخراط في مجال الوعي، أما العامل السياسي فهو يمثل الصّراع الشّخصي بين القناعة في الكينونة وتمثلات تحقيقها على أرض الواقع، وهذه العناصر مجتمعة هي التي لخّصت التوجّه الإبداعي لدى عدنان في ترويض النص وإنضاجه إلى الدّرجة التي يتقبّل فيها ذات الكاتب كما هي في الواقع عبر تاريخيتها النضالية، لتعبّر عنها مستقبلا مستويات السّرد أو الشعر في إلغاء الحدود بين الأجناس كما تحقّقت الذّات الكاتبة في الواقع مُلغية الحدود فيما بينها وبين الحياة في تعدّد مستواياتها.
“العابر” وإدراك حقائق الأشياء الجوهرية:
في شعرية عدنان ياسين تبرز تلك اللّمسة الحداثية التي تصوغ الواقع ببساطة الكلمة، وهو ما عبّر عنه أحد نقاد بول إلوار بــ “حب البساطة. معرفة الكلمات التي تعبّر عنها”، وربّما هذا ما جعل عبد الفتاح شهيد في قراءته لشعرية العبور في ديوان “دفتر العابر”، يعاين حالات التسرّع والرّكض والمرور التي تصاحب “العابر” في أسفاره باعتبارها عناصرا غير معيقة بالنسبة لذات الشاعر الرّائية بعين الصّورة والتحوّل، “فإنّ الحواس تكتسب يقظة غريبة وحساسية مطلقة تجعل العابر يسائل ويتأمّل ويندهش ليكسب الأشياء والعوالم أبعادا جديدة”، ولعل الملمح الإبداعي في ما أثبته عبد الفتاح شهيد هو وعي “العابر” في حركته بأنّ ما حوله لا يستمد ما هو عليه من كونه شيئا وظيفيا بل من كونه عنصرا من ضمن عناصر حركة الفضاء الذي انوجد فيه، وهو ما يجعل الشّاعر يتحرّك بسلاسة مستحيلة داخل حقائق الأشياء، لأنّه كينونة متسائلة متأمّلة ومندهشة، عناصر تجعل “العابر” يدرك أنّه ليست “هناك أشياء عادية وأخرى غير مهمّة، كل شيء يكتسب بعدا شعريا وشعوريا بما يضفيه عليه الشاعر العابر من رؤى متجدّدة وأفكار غير تقليدية”، كما يقول عبد الفتاح. هذه العلاقة التي تشدّ الشّاعر إلى العالم والمحيط الذي يتحرّك فيه تتشكّل انطلاقا من “حب البساطة” وأكثر من ذلك “الكلمات التي تعبّر عنها”، فالعبور بما يختزنه من معنى السّرعة، يكرّس في وعي الشّاعر الذي لا يتخلى عن “الحاسّة اللاقطة” الانهمام في مشاركة الأشياء عبورها وهي تلتقط أنفاس ثباتها في أماكنها، فيكتشف العابر الشّاعر “عبوره” في ظلّ ثبات الأشياء التي التقط صورها العابرة، وهو ما يؤدّي إلى هدم الحدود بينه وبينها في لحظة لا يشعرها، لذلك تنتج كينونة مبهرة ذات أبعاد متعدّدة تنمحي فيها الحدود بين ما تنتجه القريحة من شعر مسرود أو سرد شعري، تلك لحظة العبور الآيلة إلى الزّوال بفعل الذّات في انتقالها الحركي المتجدّد، والتي تنقل معها ثبات الأشياء ليصير “العابر” و”الأشياء” في لحظة استثنائية ذاتا واحدة، وهو ما يجعل الشّاعر يقف على حقائقها الجوهرية.
“التّدوينة” فعل السّرعة:
يعرّج عبد الرّحمان إكيدر على “التّدوينة” في “مدائن معلّقة”، باعتبارها أدبا اقتضته الضّرورة الالكترونية، ولكنّه ينطلق من إشارة عدنان ياسين ذاته إلى ذلك: “يمكننا اليوم الزعم أنّ أدبا جديدا قيد التشكل في المشهد الإلكتروني هو أدب التدوين”، مشيرا إلى نبوغ عدد من المدوّنين الذين أصبح لهم متابعين و”مُليِّكين”. هكذا ينخرط عدنان ياسين في إنتاج “النوع الأدبي” من خلال الانخراط فيما يوفّره الراهن من أدوات الكترونية، وهو بذلك ليس مجرّد منتج للمصطلح/النوع الأدبي، وإنّما قائما على تجربة ماحية للحدود بين استعمال الآلة وتوظيف تجلياتها في الإنتاجية الإبداعية. فالكتابة وفق عنصر التدوينة، يكشف الغطاء عن فعل السرعة الذي تحكّم في العصر، وأصبح عصر “الهامبورغر” كما ذهب إلى ذلك الصحافي الأمريكي توماس فريدمان في مزاوجة بين الوجبة السّريعة والسّرعة التي تشمل الرّاهن. وهو ما يختزن البعد المَحَوِي للحدود بين التمثلات على مستوى الرّمز في قراءة الواقع المعيش، الذي تتداخل فيه الأشياء إلى درجة أنّ العمليات الجراحية أصبحت تُجرى عن بعد، وهو ما يحيل إلى تماهي الحدود الزّمنية والتواصل عبر الوعي والعقل، وهما المجالان الأكثر تعقيدا في وجودية الإنسان، لكن في الحين ذاته يمثلا التّعبير الأكثر “غيبية” أو “لا محدودية” في الواقع الإنتاجي للحياة، وهو ما يجعل الشّعر أقدر نفاذا إلى مناطق مبهمة وغامضة تنمحي فيها الحدود أصلا بين ما يمكن وما لا يمكن تصوّره، وهو ما يجعل “التداخل الأجناسي” واردا ومقبولا في واقع الشّاعر، وعدنان ابتدأ شاعرا.
خاتمة:
في خاتمة هذه القراءة لا أخفي سروري بالوقوف في الكتاب المقروء على سرّ الشّاعر وهو يتحوّل تشكيليا على المستوى الرّمزي “تلبية لرغبته الطفولية في الرّسم” كما صرّح، وبالتالي، يصبح العود الطفولي فاتحة كل “لعبٍ” في مجالات “الاختراق الأدبي” تحقيقا للتداخل البهيج الشّبيه باللون والكلمة وهما يتراقصان داخل محفل الابتكار.
يتجاور الشّعر والتشكيل في عمل مشترك بين عدنان ياسين والفنّان التشكيلي الفرنسي إتيان إيفر “فقد اشتغل معه على تيمة السفر”، ويرى عدنان “بأنّ لقاءه مع إيفر كان سفرا رمزيا فقرّرا أن يسافرا باتجاه بعضهما البعض”. التشكيل هو شعر بالرّيشة كما أنّ الشّعر هو رسم بالكلمات، والجامع بين تجربتي عدنان وإيفر هو السّفر، تلك الحركة في المكان عبر الترحال، والتي سوف تحقّقها على مستوى الرّسم الرّيشة، وعلى مستوى الشّعر الكلمات، ثم تأتي اللحظة التي تتوحّد فيها المعاني لتصبح الرّيشة كلمة واللون سطرا شعريا والشّعر ماء تذوب فيه الألوان.
إيطاليا تلغراف





