نبيل التويول/ إيطاليا تلغراف –
في أوقات الحروب والانهيارات الكبرى، لا تعود الأعلام رموزا وطنية، ولا تتحوّل المناسبات الرياضية إلى لحظات فرح جماعية للاحتفاء بها؛ بل تصبح ساحات صامتة يتواجه فيها الماضي مع الحاضر، والذاكرة مع السلطة، والضمير مع الطاعة، وهنا بالتحديد يظهر الموقف الاستثنائي للصحافي والمثقف السوداني طلحة جبريل، الذي اختار أن يقول “لا” بهدوء النبلاء، على نحو يرفض فيه أن تتحوّل الرموز الوطنية إلى أدوات لتبرير القوة والعنف، ليقدّم بذلك مثالا على الصمود الأخلاقي، ويصبح شاهدا على وعي الشعب السوداني وتاريخه الضائع، بدل أن يختزل في لعبة ألوان معلّقة على صليب سلطة غير شرعية.
رفض طلحة جبريل ارتداء علم السودان قبل مباراة كرة قدم في الرباط لم يكن موقفا رياضيا بالمرّة، ولا احتجاجا على تكتيك منتخب أو جمهور، بل جسّد موقفا يرفض أن يختزل الوطن في رموز صممتها الأنظمة العسكرية، واستخدمت لشرعنة الانقلابات والحروب، وهو بذلك يذكّرنا بأن العلاقة مع الدولة ليست علاقة عبودية، بل واجب أخلاقي مستمر تجاه الوطن الذي لم يستكمل بعد مسار بناء مؤسساته المدنية. فالراية التي صممت في عهد جعفر نميري، واستمرت في زمن عمر البشير، وبقيت بعد انقلاب البرهان على ثورة الشباب، تختزل تاريخ طويل من السيطرة العسكرية على السياسة، وتجربة سودانية لم تحقق استقلالها الكامل إلا في الشكل، بينما بقيت الروح الوطنية رهينة.
وحين يستدعي جبريل علم الاستقلال، ذلك العلم الأبيض البسيط الذي رفعه وفد السودان في مؤتمر باندونغ، فإنه لا يفعل ذلك من باب الحنين أو الرومانسية، بل لإحياء لحظة تاريخية جسدت وعدا مدنيا نادرا، حين كانت السياسة أداة بناء وليست أداة سيطرة، وحين كان المستقبل يبنى بالأمل لا بالبندقية. واقتراحه إضافة خط أزرق رقيق يرمز إلى نهر النيل ليس مجرد لمسة جمالية، بل استعارة سياسية وحضارية عن السودان الذي يجمع ولا يفرّق، و عن الهوية الوطنية قبل الأيديولوجية.
غير أن جوهر موقفه لا يختزل في نقاش رمزي، بل يتجلّى في عبارته الأخيرة، التي تختصر الصراع السوداني كله: “الحرية والكرامة هما الراية التي لا تسقط مهما تبدّلت الألوان”. في هذه الجملة تتلاقى جميع تساؤلات السودان المعاصر: ما قيمة الرموز إذا كانت تستغل لتبرير العنف؟ وما معنى الوطن إذا كان يرفع اسمه بينما تسحق أرواح أبنائه؟
ففي الوقت الذي يتقاتل فيه العسكر والمليشيات على أنقاض المدن والأحلام، يصبح موقف طلحة جبريل فعل مقاومة نادر، وممارسة للوطنية الأخلاقية التي تحفظ معنى الإنسان حين تنهار الدولة، وكرامة الوعي حين تستبدل الرموز بمسوغات للعنف. إنه موقف لا يفرض نفسه كحقيقة مطلقة، لكنه يعيد فتح النقاش حول معنى الدولة، و حدود الشرعية، ودور المثقف في هذه المعادلة المعقدة.
وفي هذا السياق، يتحول طلحة جبريل من صحافي وكاتب رأي إلى شاهد على العصر، ورمز للصمود المدني، لأنه يثبت أن الوطن لا يقاس بعدد الأعلام المرفوعة، بل بقدرة الإنسان على الحفاظ على الحرية والكرامة، وبأن المواقف الأخلاقية البسيطة في زمن الانهيار يمكن أن تخلّد تاريخيا، وأن تظلّل معها ضمير الأمة حين يكتشف المستقبل أنّ القيم الحضارية لم تموت مع سقوط الأنظمة.





