في معنى العبور … “رسالة تأمل في توديع فصل الخريف ” .

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

المختار عنقا الادريسي
مفتش ممتاز للتعليم متقاعد و خبير دولي في التربية على حقوق الانسان
مدير المؤسس لمجلة ” أمل ” للتاريخ والثقافة والمجتمع.

 

 

1 حين يعلمنا الزمن كيف
نُصْغِي

أحبتي يامن تقاسموني معنى الطريق ، قربا حينا و بعدا أحايين أخرى . ويامن رافقتم هذا العمر في فصوله ومنعطفاته . ويامن تقاسمتم معي المعنى حتى حين افترقت بنا الطرق .
ونحن على مقربة من العام الميلادي الجديد ، وأنا بمدينة “طنجة “أكثر
مَيْلاً لاستقباله بالتأمل… بعد النظر … الإنصات … انصات بصمت لا ننتبه إليه ،إلا حين نلتفت إلى الدواخل وإلى ماتركه من جراح في الروح قبل الجسد … ولما نزعه منا من أوهام … وما أضافه لنا من حكمة .
أحبتي لا يأتي هذ العام الجديد بوصفه رقما قد ينضاف إلى التقويم الميلادي ، بل كمرآة صامتة نقف أمامها ، نحدِّق فيها لنكتشف ملامحنا كيف صارت لا كما تمنيناها دائما. وكعتبة وجودية تشدنا إليها ، نفكر كثيرا، نتردد قليلا ثم نعبرها، عبورا لا يخلو من تخوف، لأن الزمن في جوهره ، ليس مايمر بنا فقط . بل مايترك فينا أثره العميق ، بصمت هادر قد لا ننتبه إليه .
فحين نهنئ بعضنا ببداية العام الجديد ، فإننا في العمق نهنئ قدرتنا على الإستمرار … التجاوز … الترميم … النهوض دون ضجيج ، نهنئ قلوبنا لأنها مازالت قادرة على الحب رغم الخيبات ،على الحلم
رغم التعب، على منح الدفء في زمن صار فيه البرد إنسانيا قبل أن يكون مناخيا .
أحبتي ،هو ذا الزمن يمر سريعا وتنفلت أيامه من بين أصابعنا وكأنها فقاعات صابون عطر ، لكن الذي يبقى حقا ليس عدد السنين ،بل ماتعلمناه خلالها وجعلنا ندرك أن :
* بعض الخسارات كانت دروسا متكررة .
* بعض الصمت كان حكمة واتزانا لا ضعفا .
* بعض الانسحابات كانت شجاعة لحماية الذات،لا هروبامن الحياة.
وأنا متأكد – ونحن نقترب من أيام العام الجديد – أنه لا يَعِدُنا بالسعادة المطلقة ولن يكون قطيعة مع الألم ، بل هو فرصة أخرى لنكون
أصدق مع أنفسنا،ألين مع
نحب وأكثر رحمة بذواتنا المتعبة ،هو دعوة لإعادة ترتيب القلب والتخلص من حَمْلِ مالا يُسْتَحق أن يحمل .
إنه عام جديد يطل من وراء السحب المطيرة ، معلنا أنه لن يكون صفحة بيضاء تماما ، بل صفحة نكتبها بحبر التجربة ، محاولين جعل حظِّها أصدق وأهدأ وأقرب إلى مانريد أن نكونه ،هو فرصة متجددة للتصالح مع الذات،لتخفيف القسوة على أنفسنا وغيرنا-في نفس الوقت –
ولنعيد ترتيب أولوياتنا وتحديد انتظاراتنا ، وأن نمنح وقتا أكبر للانصات ، للبساطة ، للحب … ولكل الأشياء التي لا تشترى لكنها تعني الحياة .

2 عن الزمن حين يُخَفَّف لاحين يُضِيف .

ونحن نودع الخريف لنستقبل الشتاء ، على مقربة من العام الجديد ، وهو مايعطينا الإحساس بأن السنوات لم تعد أرقاما نتباهى بها ، بل هي طبقات من المعنى تتراكم
بهدوء . نصير معها على أهبة استعداد لاستقبال الزمن بالاصغاء ، ولا نعدّ السنوات بل نزن ماتركته فينا من أثر ومعنى .
وهاهي بدايات عام جديد تزحف نحونا ، وهولا يأتي ليضيف بل ليخفف من الأحمال الزائدةعنا …من العلاقات المرهقة… من الاسئلةالتي لم تعد تخصنا… ومن التوقعات التي أثقلت القلوب أكثر مما أسعدتها . بعد أن علمتنا التجربة ، أن النضج ليس تراكما ، بل تنقية للدواخل . وأن ما تخلينا عنه كان شرطا ضروريا للمحافظة على مابقي فينا نابضا بالمحبة.
وأن الفقد مهما بدا قاسيا فهو يعيد ترتيب القلب ، وأن – بعض – الغياب لا يُنْهِي الحضور ، بل ينقله إلى وعي أعمق .ويجعلنا
نفهم أن الراحلين لا يغيبون ، بل يتحولون إلى بصيرة ، وإلى مقياس جديد نزن به الحياة .

3 معايدة سنوية في فضيلة السكون الناضج
قد نصادف في نهاية الخريف أن الإنسحاب الناضج ، لا ولن يشبه الهروب ، بل هو عودة للذات بعد اختيارنا للصمت لأننا لم نعد نمتلك
أي كلام ، أو لأننا صرنا نعرف متى لا يكون للكلام من معنى ، وأن السكون ليس فراغا بل امتلاء من نوع أسمى . صرت معه أفكر في :
* أحبة يتقاسمون معي تفاصيل الأيام التي عشناها جميعا .
* أحبةأبعدتهم عني تضاريس الجغرافيا ولازالت الصلة معهم أمتن من كل المسافات .
فغذوت أتمنى لهم/ لهن جميعا : سكونا يشبه ذاك الذي يسبق الفهم . وصبرا لا يٌقسي القلب بل يُوَسٌِعه
وأملا هادئا لايَعِدُ بالكثير ،
لكنه لا يخون . وأن نعيش ماتبقى بعمق أكبر وبمحبة
أقل ادعاءً وبتصالح صادق مع الذوات .
وكل عام وأنتم ونحن نتعلم أن المعنى لا يُطلب
في السرعة ، بل يستخرج من التأمل ومن الإصغاء الطويل لما يقوله الزمن حين نكفُّ عن مقاطعته .

وكل عام وأنتن / أنتم أحبتي طيبون وطيبات

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...