ذ.خالد وليد محمود
باحث دكتوراه في العلوم السياسية
مما لا شكّ فيه فقد أصبح الذكاء الاصطناعي الشغل الشاغل لغالبية حكومات الدول المتقدّمة؛ لإدراكها أن العالم يقف عند فجر حقبة جديدة، ستغيّر حياة البشرية والطريقة التي تعيش وتعمل بها في عدد كبير من المجالات والقطاعات المختلفة، مع الإقرار في نفس الوقت بأن مخاطر هذه الحقبة لا تزال مجهولة أيضًا.
فلا مبالغة بالقول إن العالم دخل فعليًا مرحلة جديدة عنوانها السباق في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، لكن إذا لم يتم وضع قواعد ناظمة لهذا السباق؛ فإنّه قد يخرج عن السيطرة، ويهدد المعمورة كلها؛ لأنه يثير العديد من المخاطر والتهديدات الأمنية والأخلاقية؛ نتيجة الاعتماد المتزايد عليه.
كما أن التطبيقات الضخمة لهذا الذكاء، تعد تمهيدًا لحرب ناعمة بين الآلة والإنسان، ولا يمكن قراءة استقالة “جيفري هينتون” – الذي يطلق عليه “الأب الروحي للذكاء الاصطناعي” من شركة غوغل أوائل مايو 2023 – إلا في سياق “جرس الإنذار” الذي ينبّه البشرية إلى تلك المخاطر العديدة المتعلّقة بالذكاء الاصطناعي.
التقديرات تشير إلى أن حوالي 800 مليون شخص سيفقدون وظائفهم خلال الأعوام المقبلة؛ بسبب تطوير الشركات التكنولوجية العملاقة جيلًا جديدًا من البشر الرقْميّين الذين سيتفوقون على العُمّال والمُحترفين من البشر، بل يتوقّع بعض العلماء أن يحلّ الذكاء الاصطناعي، مكان البشر في 99% من الوظائف في غضون العقدين المقبِلين.
المعروف أن الذكاء الاصطناعي ليس قضية اقتصادية فقط، ولا هو مجرد الروبوت – وأليكسا وأمازون – الذي يخدمك في منزلك أو يراجع جدول الضرب مع أطفالك، أو تلك التكنولوجيا التي تؤسّس لثورة طبية جديدة، أو التعليم والصناعة، أو المركبات التي تعمل من دون سائق؛ بل إنه أيضًا أداة سيطرة وهمينة وفرض نفوذ من خلال التكنولوجيا العسكرية والدفاعية الصاعدة.
إذ ليس صدفة أن أكبر الاستثمارات فيه التي يقوم بها العملاقان المتنافسان، الولايات المتحدة والصين، هي في هذا المجال. فالعالم بأجمعه يعرف غوغل، ومايكروسوفت، وأمازون، والبعض فقط يعرف علي بابا، وبايدو، وتنسنت الصينية المهمة بالقدر نفسه، هذا دون احتساب مراكز البحث المتخصصة المرتبطة بها.
قبل عقدين من الزمان كان الحديث عن طموحات الذكاء الاصطناعي والروبوتات بديلًا للعقل البشري – أو على الأقل تدريب الآلة لتنفّذ ما يقوم بعمله الإنسان أو العامل أو الموظف في مناحي الحياة – يقابل إما بالاستخفاف والتقليل من الأهمية من غير المتخصصين والمهتمين، بينما كان يرى الجانب الآخر من المتخصصين، أن الأمر لا يزيد على مجرد ضرب من ضروب الخيال العلمي أو الفانتازيا الهوليودية.
اليوم يترقب العالم بحذر تطورات التنافس في هذا المجال “الذكاء الاصطناعي”؛ لأنّ من سيقوده، سيمسك بزمام الثورة الصناعية الخامسة.
في ظل اقترابنا من بداية حقبة جديدة، يظهر مستقبل الذكاء الاصطناعي في الأفق بإمكانات واسعة وعمق متنوع. في هذا السياق المتسارع التطور، أصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تكنولوجيا مدهشة، بل أصبح ركيزة حاسمة للمستقبل الذي كان يومًا ما خيالًا علميًا.
فمن الخوارزميات المتطورة التي تدعم تفاعلاتنا الرقمية اليومية، إلى العوالم الناشئة للمركبات ذاتية القيادة والروبوتات المتقدمة، يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل عالمنا بطرق فريدة. وبدلًا من كونه مجرد سرد للقدرات التكنولوجية، يمثل مستقبل الذكاء الاصطناعي تفاعلًا معقدًا يشمل الابتكار، وتأثيره الواسع في المجتمع، والمسؤولية الأخلاقية.
ووفق هذا المشهد سريع التطور، لا يعد الذكاء الاصطناعي اليوم مجرد أعجوبة تكنولوجية – في ظل معطيات تتحدث عن توقعات بشأن وصول الإنفاق العالمي على أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى حوالي 300 مليار دولار بحلول 2026 – بل أصبح مهندسًا محوريًا للمستقبل الذي كان ذات يوم عالمًا من الخيال العلمي.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك طفرة واسعة في تقنيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ستؤدي إلى تحولات متسارعة في أسواق العمل، وتخلق مزيدًا من المخاوف بشأن المنافسة بين البشر وتلك التطبيقات، وسط تنافس وسباق محموم بين شركات عمالقة التكنولوجيا على تطوير تقنيات متقدمة، يُمكنها مواصلة الثورة التي يصنعها الذكاء الاصطناعي في الأسواق العالمية.
ويبقى السؤال المعلق أين العرب من هذا المشهد؟ صحيح أن المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي من Tortoise Intelligence وضع كلًا من السعودية، والإمارات، وقطر، والبحرين في المراتب الأولى عربيًا بوصفها دولًا لها بصمة في هذا المجال، لكنّ كثيرًا من الدول العربية ما زالت خجولة في تبنّي الذكاء الاصطناعي، وكأنها منفصلة عن الواقع بمستويات مختلفة.
إنّ الاقتصاد المستقبلي هو اقتصاد معرفي (تقني – رقمي)، وفي حال بقيت دول بعيدة عما يجري في عالم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، فستكون منفصلة عن هذا الواقع، وبعيدة كل البعد عمّا يحصل من تطوّر على مستوى الثورة الصناعية الرابعة.. فهل نحن فاعلون؟