بشار الأسد في طهران… موازنة بين المقاومة والتسوية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

موفق نيربية
كاتب سوري

 

 

 

في أيار/مايو العام الماضي، زار الرئيس الإيراني الراحل دمشق، وألقى خطاباً «تاريخياً» في مقام السيدة زينب فيها، بوجود جمهور خاص وكبير، أخذ يقاطعه بالشعارات المعروفة بين فقرة وأخرى. وفي مايو هذا العام، ارتطمت مروحية رئيسي المتخلّفة التكنولوجيا بجبل في آذربيجان الشرقية. لم يحضر بشار الأسد جنازته لانشغاله كما قيل بالوقوف إلى جانب زوجته في المرحلة الأولى من علاجها من سرطان الدم، لكنّه عوّض ذلك في الأسبوع الماضي، واستفاد من انفراده بالتعزية المتأخّرة ليحظى بأضواء كاشفه أكثر.
كان أهم ما قاله خامنئي إن «هوية سوريا المميّزة هي المقاومة»، وأهمّ ما قاله الأسد إن «تكلفة المقاومة أقلّ من تكلفة التسوية»، إضافة إلى احتفائه بأن المقاومة أصبحت «نهجاً دينياً وسياسياً». هذا رجع صدى لما قاله رئيسي منذ عام حين حيّا «حزب الله في لبنان، وحزب الله في سوريا، وحزب الله في العراق».
جاءت الزيارة هذه بعد تردّد إشاعات عن ركود في العلاقة الثنائية، ولنفي ذلك. وجاءت أيضاً بعد حضور الأسد بشكل باهت مؤتمر القمة العربية الأخير، الذي لم ينبس فيه ببنت شفة، وربّما لذلك أشار خامنئي إلى سلبية المواقف العربية في الفترة الأخيرة، مشيراً ضمناً إلى أن النظام الإيراني ما زال هنا على عهده في الأربعين عاماً الماضية، وفي العقد الأخير على وجه الخصوص، مذكّراً الأسد بأن الموقف «المقاوم» هو إرثه من أبيه ومن أيام «جبهة الصمود والتصدي» في السبعينيات من القرن الماضي، وأن هذا التاريخ المشترك يؤكّد أسبقية الدور الإيراني على الدور الروسي والعربي، وبالطبع الدور الغربي.

هذا للتوثيق وحسب، وتليها عودة إلى ما يجمع الطرفين باعتمادهما على التوتّر في العلاقات الخارجية، كأساس وقاعدة في بناء الاستراتيجية، وفي حالة النظام السوري: الاستناد أيضاً إلى التوتّر الداخلي كآلية لتحصين النظام من الانهيار، لأنّ كلفة الحرب أقلّ من كلفة السلام، في طهران وفي دمشق: والعملة المستعملة في القياس هي علامات ودرجات أمان لاستمرار النظام وتعزيزه. يقال إن كلفة الإيرانيين في الساحة السورية، زادت عن الخمسين ملياراً، لم تتعهّد دمشق بردّ إلّا ثمانية عشر منها، على شكل بنود غير مضمونة ستبقى غالباً على الورق. وفي الأساس، أخذت قيمة النفط والغاز والفوسفات ومشاريع البنية التحتية المحدودة، التي مُنِحت لإيران، تتضاءل. تكاد قيمة الصادرات تنعدم أيضاً. ولعلّ الأسد كان يُلمّح إلى تسديد قيمة تلك المساعدات «دينياً وسياسيا» في كلمته أمام خامنئي!

الأجواء الحالية مشغولة بحرب غزّة، التي تجري المفاوضات بشأنها، من دون ذكرٍ لإيران حتى الآن، وهذا ميزان خاسر إضافي للنظام في طهران. فهي رغم نفيها دوماً لعلاقتها بإشعال فتيل تلك الحرب، إلّا أنها لم تخفِ أنها جبهة من بين جبهات «محور المقاومة»، التي تقودها ولاية الفقيه في طهران، وتلك حقيقة معلنة من كلّ الأطراف. لم يتجّه أي طرف إلى طهران لاستخدام نفوذها في إطفاء النار، مع وجود مصلحة للأخيرة في ذلك، على الأقلّ في مجال الاتفاق النووي وتخفيف العقوبات الوازنة. لم يتّجه أيضاً أيّ طرف إلى دمشق لتعديل موقفها من إسرائيل على هامش الحرب، وليس لذلك من قيمة لدى إيران، وأيضاً لدى الولايات المتحدة وأوروبا كما يبدو. لقد أطلقت حماس أساساً عملية «طوفان الأقصى» والحرب المدمّرة بعدها، بعد وقت قليل من حديث الأسد عن «غدرها ونفاقها» ليصبح واضحاً بعدها أنه قد صار خارج الحسابات، وقد تذروه الرياح العاصفة حين تعصف في المنطقة، أو الاتفاقات التالية للحرب التي لن تقلّ عن الحرب ذاتها بدراميّتها.

ليس للنظام السوري من قيمة جديّة، إلّا من خلال كونه ساحة للوجود الإيراني والروسي، على تعارضهما وتوافقهما. وسوف ينشغل الإيرانيون لأسابيع وشهور في ترميم الخلل الذي أحدثته حادثة الهليوكوبتر في النظام، مع حالة حرجٍ متزايدة مع كلّ عامٍ يزداد به عمر المرشد اقتراباً من قضاء الله والطبيعة، وربّما لن يحتمل النظام ذلك التغيير، أو يصمد أمام هزّة جديدة وانتفاضة تبدو أنها محتومة، مع ازدياد عزلة النظام وتهافت حشده الانتخابي. في حين تبدو حرب أوكرانيا على أبواب مرحلة جديدة أكثر تفاقماً، ستتطلّب جهداً أكثر من الحكومة الروسية، ما استمرّ رفض طلبها الذي يعادل استسلاماً أوكرانياً وغربياً، الذي ستخسر بدورها من دونه الحرب. ذلك المنطق المهدّد بالخراب ليس حكراً على بوتين، وهنالك ما يشبهه في النظام الإيراني، وأيضاً في النظام الهرم المتهالك في دمشق، الأكبر عمراً من النظامين الآخرين، والأقلّ قيمة حالياً بكثير في البورصات الدولية، بعد أن استنفد طاقاته كلّها داخل بلاده، وباع كلّ ما يمكن بيعه. فمنذ عهد الأسد الأب، كان التهديد بالتخريب سلاحاً ماضياً للابتزاز به، لكن النظام لم يكن بهذا الضعف والهزال.
تتقاسم البلاد حالياً قوى مختلفة، دولاً وميليشيات؛ وتنقسم مناطق هذه القوى بدورها إلى مساحات للنفوذ ولصراع النفوذ، في حين قارب الاقتصاد الإعلان عن الإفلاس الكامل، واحتلّ مكانه اقتصاد السلاح والعصابات والمخدّرات وقطع الطريق. حتى تلك الظاهرة «الصرعة» التي تشكّلت للدعاية والترويج وتحصيل العائدات وتجميع المساعدات، وتغطية مركز عمليات اقتصاد الفساد، «أمانة التنمية»، التي شكّلتها زوجة الأسد وجعلتها تقصي كلّ مافيات الاقتصاد القديمة؛ سوف تتعرّض – أو تعرّضت- لزلزال بإصابة قائدتها (زوجة الأسد) باللوكيميا.
هنالك نقطة ما من مسار الخراب المستفحل، لا بدّ أن تعيد استقطاب الاهتمام بسوريا، انطلاقاً من عامل «دفع الضرر» على الأقل. وهنالك نقطة تشيخ فيها الأنظمة المركّبة بطريقة خاطئة إلى حدود التحلّل والتفسّخ، ولا يمكن لتعازي الأسد في طهران أن تحول دون وقوع ذلك.

لقد قضى المرشد الأعلى- الذي خاطبه الأسد «فخامتكم»، ثمّ جلس على مقعد جانبي كما في حضرة قائد يزيد منزلةً عنه بدرجات – أن «هوية سوريا المميّزة» هي «المقاومة»، ونفهمها على أنها الحرب، أو ساحة صديقة للحرب الإيرانية «السياسية والدينية» على العالم… ويأتي هذا- بالمناسبة- في زحمة جدالات سورية واسعة النطاق لتحديد وتعيين «الهوية الوطنية». ولن يكون المرشد في وضع يستطيع به تلبية حاجات الأسد، التي يلمّح إليها اصطحابه لرئيس حكومته الهزيلة ووزير اقتصاده الأشدّ هزالاً معه. لن يكون من معنى يمكن لأهل النظام الإيراني- المرتبكين أساساً- استنتاجه من اصطحاب علي مملوك أيضاً، إلّا المعنى غير المقصود حول شيخوخة النظام و»تقاعده» من حيث القدرات الأمنية، أو تهالكه وتشتّته. وفي حين أن استمساك الأسد بأن الصراع في المنطقة ديني وسياسي، لا يعبّر إلّا عن التملّق الذي لن يجدي إلّا من حيث ما يقوله للإيرانيين من إعلان الاستعداد لأيّ شيء… فقط ساعدونا على الاستمرار و»الصمود» أمام عاديات الزمن. وما زالت مصيبة السوريين في تهافت البدائل أيضاً حتى الآن، وبالتالي الافتقاد إلى خيط من الأمل!

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...