ذ.عبداللطيف الوراري
كاتب مغربي
«ابن» سيرج دوبروفسكي
عندما كان فيليب لوجون يمعن نظره في خصائص الكتابة الذاتية، لاحظ سيرج دوبروفسكي أن ثمّة خانة فارغة، وقال: «كل شيء يحدث كما لو كان (Fils) قد كُتِب لملء هذه الخانة الفارغة». وإذا كان مصطلح التخييل الذاتي الذي اجترحه ملأ هذا النقص، إلا أن التعريف الذي أُعطي له على ظهر غلاف كتابهFils 1977 (ثمة التباس دلالي في ترجمة العنوان بـين «ابن» و»خيوط» وربما قصده دوبروفسكي نفسه على شاكلة ما تثيره لعبة التخييل التي تسخر مما هو مرجعي ومتواضع عليه) قد فسح المجال لتأويلات متعدّدة وأكثر مما يُطاق: «سيرة ذاتية؟ كلا، إنّها امتياز محفوظ للمُهمين في هذا العالم، في خريف عمرهم، وبأسلوب جميل. تخييل، من أحداث ووقائع حقيقية بالذات؛ وإذ نريده تخييلا ذاتيّا، فإنّما نسند لغة المغامرة إلى مغامرة اللغة، خارج الحكمة وخارج تركيب الرواية، القديمة والجديدة. توليفات، ألياف كلمات، أسجاع، تجانسات أو منافرات صوتية، كتابة قبل الأدب وبعده».
يتمثَّل تعريف دوبروفسكي في ممارسة تخييل الذات، إذ يجد في التخييل الذاتي وسيلة تسمح بجعل حياة أولئك الذين لم ينتموا إلى فئة «الـمُهمّين في هذا العالم» ولا مكان لهم في التاريخ، تبدو مُهمّة في عيون القراء، بعد أن يصير لها مكان بديل داخل الرواية، التي يمكن القول إنَّ وظيفتها الأساسية هي دمقرطة الكتابة: عبر منحى التخييلية تستحقّ كل حياة أن تروى (هذه الآلية تشتغل بطريقة كامنة في السيرة الذاتية التقليدية). ويبدو من نموذجه في المعالجة أنه أكثر تأثُّرا بالتحليل النفسي: لا يمكن للذات ما بعد فرويد أن تتطابق أو تتآلف مع نفسها؛ بحيث إنَّ «حقيقتها» ليست معطاة مسبقا، بل تنجزها الذات طوال تحليلها وإنتاجها في الكتابة وعبرها: «حقيقتي، من أجل حصّةٍ أرحب، إنّما هي الآخر الذي يمتلكها. وإذا كانت حقيقتي هي خطاب الآخر، فكيف أحافظ بنفسي على خطاب الحقيقة». فالتخييل، بالنسبة إليه، هو حيلة حكائية، إذ يسمح له، تحت غطاء اسم «رواية» أن يقدم حياته للقرّاء الذين لم يقرؤوا سيرة ذاتية لرجل مثله أيّا كان. وفي هذا السياق، يجري إدماج الأحداث في المحكي عبر بناء إطارٍ للتخييل الذاتي؛ أي تتحرك – رغم ادعائها مطابقة أفعال المعيش- خارج المرجع والترتيب الزمني للأحداث، وتخضع في المقابل للنظام الشعري داخل النص، حيث للكلمات حق التقدم على الأشياء.
الولع بالأكاذيب
منذ أن اجترحه سيرج دوبروفسكي ورأى أن خواصّه تناسب الخانة الفارغة (أن يُخوّل المؤلف لشخصية خيالية أن تحمل اسمه فيما هي تسترجع حياته الشخصية) ما زال التخييل الذاتي مصطلحا وكتابة، يثير النقاش بين الدارسين؛ فالمصطلح ابتداء من جذره الاشتقاقي يحمل مشكلا أنواعيّا، إذ يتكون من نواتين متعارضتين: (Auto) و(fiction) . تعلن الأولى الفعل الكلامي المرجعي الذي تمثله السيرة الذاتية، فيما تمثّل الثانية الفعل الكلامي التخييلي؛ وإذن، فالالتباس الذي تثيره الطبيعة الأنواعية للتخييل الذاتي يلعب على حدَّيِ «المرجعي» و«التخييلي». وفي المقابل، أخذ التخييل الذاتي يستحوذ على إمبراطورية الآداب في الشرق والغرب؛ إذ لا يمرّ وقت لا تسمع فيه أصداء كتاب يحتشد بالاعترافات، أو مصوغ على شكل بوح وتعبير حميمي طافح.
ضمن آخرين؛ مثل جاك لوكارم وماري داريوسيك وفيليب فورست وفيليب غاسباريني وأرنو شميت، يعدّ فنسنت كولونا Vincent Colonna من أبرز الدارسين الذين نظّروا لإشكالية التخييل الذاتي وتتبعوا ملابساتها سنين عددا، وذلك منذ أطروحته الجامعية ذائعة الصيت التي أشرف عليها جيرار جنيت، «التخييل الذاتي: حول خيلنة الذات في الأدب» (1989). وجوابا على الرفض الذي وُوجه به هذا النوع الجديد، باعتباره ردّة فعل ضد ظاهرة اجتماعية تميل إلى الحديث عن المكاشفة (إظهار الذات الحميمية) أكثر مما هي فنية، وإشباعا لشغف شخصي وفضول معرفي سكنه منذ كان طالبا في مطلع الثمانينيات، أُتيح له أن يقتحم هذه المجرة التي تضمّ كمّا لا محدودا من الخطابات والممارسات المولعة بالأكاذيب واستخدامات «تخريف الذات» بقدر ما كان يطمح إلى ابتكار قراءة تعيد الاعتبار لظواهر الكتابة التي تبدو هامشية في الظاهر، وتكتشف مُتعا أدبية مجهولة: «لقد اندهشت من الصمت الذي يحيط بتاريخ التخييل الذاتي، فأنجزت دراسات موجزة عن فضاءاته وحواضره، وكابدت صعوبة في تحديد موضعه، كما عانيت من قصور في الوسائل التقليدية في البحث».
في كتابه «التخييل الذاتي والولع بأكاذيب أدبية أخرى» (2004) الذي يمثل عصارة جهده التنظيري والفكري، وبعد وقت طويل من الحظوة النقدية والسجال وسوء التقدير والفهم الذي أثير حوله، يُرجع كولونا أصول التخييل الذاتي إلى أقدم التقاليد الأدبية، ومن خلالها يرسم علم الأنساب لفن أدبي له قضايا وجوانب متعددة، نشأ في القرن الثاني الميلادي مع الكاتب السوري لوسيان السميساطي، وتجسد على مرّ العصور في أعمال تبدو مختلفة ومتنوعة؛ مثل أعمال دانتي، ورايليه، وروسو، وبلزاك، وبروست، وكافكا، وجويس، وهنري ميلر، وسيلين، ويتولد غومبروفيتش، وبورخيس، ونابوكوف، وفيليب روث، وصولا إلى بداية الألفية الثالثة، حيث نشط تلفزيون الواقع، وتمّ الإسراف في عرض حياة الكاتب الخاصة. فالتخييل الذاتي، في هذا الأفق الرحب، صار التخييل الذاتي يعكس ظاهرة معقدة تضمّ مجموعة من الممارسات المختلفة والمتشابكة التي تطوّرت عبر التاريخ وكشفت عن جوانب جمالية خاصة ومنطق غير معروف؛ ومن ثمة، فإنّ وضع هذه الكتابات لا يقتصر على مجموعة من الخصائص الشكلية، التي يكفي سردها، بل إنه سديم يتوزع بشكل غير متوازن بين السيرة الذاتية والرواية، والتخييل والواقع. ومن هنا يُقرّ يأن مصطلح التخييل الذاتي الذي له محتوى مُحدَّد عند سيرج دوبروفسكي، ينحدر معناه في التاريخ ليُسْتعمل للدلالة على جمهرة من النصوص، التي غالبا ما كانت تبتعد عن السيرة الذاتية، وكان ينقصها فقط مصطلح يردُّ الاعتبار لممارسة كتابة عريقة كانت، بشكل أو بآخر، تضفي التخييل على الذات؛ وعليه يرى في زعم دوبروفسكي بأنه ابتدع النوع الذي ملأ الخانة الفارغة، ليس ساذجا فحسب، بل مُثيرا للاستغراب، لأنَّ المشروع الأولي الذي كتبه هو من نمط السيرة الذاتية ما بعد التحليلية؛ أي أنه مشروع سيرذاتي أكثر من كونه روائيّا.
أضرب التخييل الذاتي
يُقدّم فنسنت كولونا تصوُّرا آخر للتخييل الذاتي، جعله في صلب أيّ مشروع لإضفاء التخييل على الذات (Fictionnalisation de soi) إذ شرط فيه أن يكون التطابق بين المؤلف والشخصية الرئيسية واضحا بالنسبة إلى القارئ. فالتخييل الذاتي ـ في منظوره- ممارسةٌ أنواعيّةٌ من خلالها يخترع الكاتب الشخصية والوجود، ويحرص على أن يحفظ لنفسه هُويَّته الواقعية (اسمه الحقيقي). ويُطبِّق هذا التعريف بشكل استرجاعيّ على أي نصّ ومؤلف من زمن آخر يسمح بالتعرُّف عليه داخل الوصف. إنّ ما يضفي التخييل الذات هو أن يعطي المؤلف اسمه لشخصيته الخيالية، وينسب إليه مغامرة متخيَّلة، ومن ثمّة يكون التخييل الذاتي – في نظره- ممارسة بقدر ما هي جِهازٌ يضطلع بإضفاء التخييل على ذات المؤلف لأسباب غير سيرذاتية. ووفق هذا الاستخلاص الذي انتهى إليه، فإنّ أعمالا مثل «الكوميديا الإلهية» لدانتي، و«الثلاثية الألمانية» لسيلين، و«البحث عن الزمن الضائع» لبروست، و«دون كيشوت» لسرفانتيس، و«القضية» لكافكا، ما هي إلا أمثلة لروايات قيل إنّها تخييلات ذاتية. وعلى الرغم من أنّ مؤلفيها ظهروا في هذه الروايات، فإنّهم لم يزعموا كونها سيرا ذاتية، بحيث يستطيع القارئ أن يفرق بين المؤلف وبطل الرواية، كما أن بعض المؤشرات تنفي القراءة المرجعية والسيرذاتية. وبخصوص روايات دوبروفسكي، فهو يتعرّف عليها بوصفها ـ «تخييلات ذاتية سيريّة» حيث يكون الكاتب هو بطل قصَّته دائما، والمحور الذي تنتظم حوله المادة السردية، لكن يحبك وجوده انطلاقا من المعطيات الواقعية، ويبقى أقرب إلى الاحتمال ويمنح لنصّه الحقيقة الذاتية على الأقل – ما دام ذلك ليس امتيازا، وأمام ثراء التخييلات الذاتية السيرية لكتاب روائيين كبار، يثبت أنّ محكيات كثيرة تحت هذا النوع يكتبها المؤلف نفسه، قد تكشف ليس عن نرجسيّته فحسب، بل إنّ إنتاج هذه النصوص بدوره قد يكشف عن «استنساخ صيغة مُجرَّبة». وأما عن التخييل الذاتي، كما تصوّره دوبروفسكي، فهو لم يتوصل إلى دلالته الكاملة، وإنما هو مجرَّد نسخة لتعريف الرواية السيرذاتية، وكان عليه ألا يقصد بالتخييل الاعتراف، بل ما يكون نقيض الرواية الشخصية، وهو ما يترتّب عليه إزاحة جميع النصوص التي ليس لها مرجعيّات سيرذاتية.
وسط سديم تعبيراته المتنوعة، ميّز كولونا بين أربعة أضرب من التخييل الذاتي:
التخييل الذاتي العجائبي، الذي يعلن فيه المؤلف عن اسمه الحقيقي، وهو ينغمس في عالم خيالي لا تحكمه القوانين الطبيعية، ويخوض مغامرات عجائبية تدخل في نطاق الخارق بقدر ما تسعى لاكتشاف عوالم أخرى تتجاوز ما هو إنساني أو مُشاكل للواقع؛
التخييل الذاتي السيري، وفيه يختلق المؤلف قرينا باسمه، ويتخيل تجربة حياته الوجودية انطلاقا من معطيات حقيقية دون اكتراث لمسألة التطابق التام؛
التخييل الذاتي المرآوي، وهو يرتكز على انعكاس صورة المؤلف داخل عمله الأدبي أو الكتاب داخل الكتاب، على نحو يشبه أسلوب الرسام الذي تنعكس صورته في اللوحة أثناء رسمه لنفسه من خلال وضع مرآة تمكن من رؤية ما يُرسم، لأن أثر المرآة يشع في الفضاء بكامله؛
التخييل الذاتي التدخلي، وهو يدل على تدخل المؤلف وحضوره مقاطعا السرد بضمير الغائب، ليبرز ذاته دون الوقوع في المباشرة الواضحة.
ففي مقابل نموذج دوبروفسكي الذي يمكن تسميته بالمذهب الضيق الذي يحيل على النصوص التي تمنح دورا جوهريّا لاستثمار مادّية الكتابة، ويستعير نموذج المعالجة التحليلية النفسية التي تنجز فيها الذات حقيقتها حسب تحليلها، يقترح فنسنت كولونا نموذجا أوسع يرى في التخييل الذاتي، وضمن المنظور البويطيقي كما تصوّره جيرار جينيت، بناء نظريّا يمكن أن يغطي، بأثر رجعي، مجموع النصوص التي رُبّما لم تُكتب لكي تنتج مثل هذا الأثر، بل لم تكن في جميع الأحوال مقروءة من هذا المنظور.
إنّ تحديدات التخييل الذاتي قد تنوّعت إلى حد كبير؛ بالنظر إلى نشاط ممارساته النصية واختيارات أصحابها الفنية من جهة، وإلى اختلاف أدوات استقصائه والتنظير له في الوسطين النقدي والأكاديمي من جهة أخرى؛ وهو ما يدلُّ على أن هذا النوع الجديد قد فرض نفسه وتجاوز منطق الموضة كما أُشيع، وأخذ يبلبل القواعد الصارمة بما هو نوع أدبي، ويستجيب لروح ما يُدْعى «ما بعد الحداثة في السيرة الذاتية». وفي المجال العربي لم يَحْظَ بعد بمثل ما حظيت به السيرة الذاتية نفسها؛ فما زالت نصوصه نادرة بين المبدعين، وإن كان اهتمام النقّاد قد أخذ يتسع ويتنصت لما تمليه عليه روح المدوّنة السردية العربية وخواصّها (سلوى السعداوي، محمد الداهي، سعيد جبار، إلخ) بعد أن كان ـ إلى وقت قريب – لا يتعدى مسألة التعريف واجترار مصطلحاته من النظرية الغربية على استحياء.
وأعتقد أن ترجمة «التخييل الذاتي والولع بأكاذيب أدبية أخرى» لفنسنت كولونا، التي أنجزها – باقتدار- المترجم المغربي محمد الجرطي (دار فضاءات، عمان 2023) هي لبنة أساسية سيكون لها ما بعدها في سياق تنشيط التلقي العربي وتمتين شرائط فهمه وتأويله لهذا النوع من الكتابات التي جعلت من التخييل رهانها الرئيس، بالنظر إلى خلوّ المكتبة العربية من مثل هذه المراجع «الأصولية» وعسر هضم المدوّنة التخييليية، بله تبخيسها والاستخفاف بها.