ذ.يحيى عالم
باحث سياسي مغربي في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة
عرف العالم والإنسان في الزمن الحديث تحوّلات كبرى شملت المعرفة والقيم والسلطة، أو أدوات الحكم ونظم الاجتماع الإنساني. هذه التحولات النوعية حصلت في صميم التصوّرات والنماذج الموجهة للوعي والسلوك من جهة، وللبنى والنظم في الجانب الشكلاني الذي ينظّم العلاقات وحركة الإنسان، أي في شكل الاجتماع الحديث الذي يمثل وعاء لتلك التصورات والمعبر عن فلسفتها وقيمها التي تحمل رؤية الإنسان لذاته وللعالم من حوله، من جهة أخرى.
كانت الحداثة إلى زمن قريب روح العصر ونبوءته التي ما فتئت تسحر عقل الإنسان ووجدانه بجاذبية مقولاتها ومنطلقاتها، التي تعد بفردوس أرضي قوامه الحرية والفردانية والعقلانية والديمقراطية والمساواة، مع تقديس شبه مطلق للعلم والنزعة العلموية.
وقد كادت هذه المقولات أن تصبح الدين الجديد للإنسان والعالم، كما أن الدول التي عرفت مخاض التنوير وأفرزت في فضاءاتها مقولات وفلسفة التنوير قدمت نفسها الحارس الأمين للتحديث والمبشّر برسالة العصر. لم يكد أحد يختلف عن تلك الأسس التي بنت صرح العالم الحديث، وما يزال تأثيرها إلى حدود اللحظة الراهنة.
لكن الأزمات التي انبثقت من وقع التحديث والمفارقات بين قيم الحداثة وتجسدها في أرض الواقع، تجعلها عرضة للنقد، لا سيما مع التحولات الثقافية العنيفة في العقود الماضية.
الحداثة والنزعة الإقصائية
في غمرة الانجذاب لقدسية تلك المنطلقات الباعثة على تحرير قدرات الإنسان وتمكينه من مقومات التسيد على الطبيعة والوجود، لكشف أسراره وألغازه، كانت شعوب وثقافات في مناطق متفرقة من العالم تمحى من الوجود، ليبقى إرثها الثقافي معبرًا عن مأساة إنسانية تكشف الوجه الآخر للتنوير والتقدم، المعادي للتنوع والتعددية وللمصادر التي شكلت أنماطًا متعددة من الشخصيات الثقافية بعيدًا عن التنميط والهيمنة وأدوات القهر التي طورتها النظم الحديثة، وأبدعت في ممارستها لفرض النموذج الواحد.
الهيمنة التي اتخذت أشكالًا متعددة في الأنساق السياسية والاقتصادية، هي تمظهرات وتجليات للثقافة السائدة التي تشكل روح الجسد أو النسق المهيمن على الواقع والخيال الإنساني فكرًا وإبداعًا منذ القرن الثامن عشر. الحرية والفردانية والعقلانية، بقدر ما فتحت أفقًا رحبًا للإنسان والمجتمعات في حركة الإبداع والتقدم، فإنها في الآن ذاته حملت في ذاتها نزعة شمولية تستبطن الإقصاء، ذلك أن جذورها منفصلة عن تربة القيم والأخلاق.
هذا لا ينفي هاجس الأخلاق في النظام المعرفي والاجتماعي والقانوني الحديث والمعاصر، لكنها مصطبغة بصبغة النسبية المطلقة، إذ لا شيءَ ثابتًا في الوجود. بعدُها المرجعي المحايث للواقع، جعلها خاضعة للواقع المادي المحسوس ومتحللة من الأبعاد الروحية المتجاوزة التي تستجيب لتطلعات الإنسان الوجدانية والروحية الدفينة.
في هذا الصدد، تعدّ المرجعية الدينية منبعًا خصبًا لتسديد القيم والسؤال الأخلاقي في الحياة الإنسانية، وتشكيل وعيه، إذ يقدم الدين وازعًا ذاتيًا للإنسان، يحميه من كل التطرفات التي تضر بالإنسان والمجتمع معًا. ومن ثم فإنّ حركة النقد مع الأنوار، بقدر ما قدمت خدمة للإنسان، فإنها قد تركته مجردًا من عناصر الحماية في المستقبل عاريًا أمام كل التقلبات والعوارض العنيفة التي من شأنها الإضرار به.
وهو ما ظهر حينما أصبح الإنسان أداة ومادة في الأزمنة اللاحقة، بعد أن تربّع برهة من الزمن على عرش السيادة المطلقة في فكر وفلسفة النهضة والأنوار. تبين لاحقًا أنها سيادة زائفة، لم تصمد أمام الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية التي أفرزت نظمًا ثقافية ورؤى فلسفية وكشوفات علمية وتقنية تهدد الوجود الإنساني في أصل استمراريته؛ بسبب اختلال التوازن في العلاقات بين الإنسان والوجود، وبين وفرة الإنتاج والاستهلاك مع تطور النظام الرأسمالي إلى نيوليبرالية موغلة في التوحش، وبين حاجيات الإنسان واستقرار النظام الاجتماعي والبيئي.
خطر الأسلحة الثقافية الناعمة
أبدعت النزعة العلموية في صناعات تفتك بالإنسان وتضر بالطبيعة، سواء كان ذلك في الأسلحة البيولوجية والكيماوية أو الأسلحة الثقافية التي تطوّرت على مدى القرنين الماضيين، وأسفر ذلك عن ثورة في المجال المعلوماتي والرقمي. جسدت هذه الثورة بحق ثورة ثقافية كبرى امتد أثرها لنظم القيم والفكر والاجتماع، لكن ردود فعل الإنسان على الأثر الذي تخلفه الأسلحة المعهودة في الحروب، لا يوازيه نفس رد الفعل وسيادة الوعي بمخاطر الأسلحة الثقافية.
ذلك أن الحروب المسلّحة منظورة للإنسان وتنعكس بشكل أو بآخر على العلاقات بين الدول، بينما الحروب الثقافية وأدوات الفتك الناعم بالإنسان والمجتمع البشري، وأثرها في التحكم بالوعي، غير منظورة، ولا تبدو آثارها بشكل آنيّ في النظام الاجتماعي وشبكة العلاقات السائدة، مما يمنع من تشكل ديناميات جديدة رافضة لكل ما يهدد النوع البشري، كما هو واقع الحال في تطوّر المواثيق والنظم والقوانين التي تحظر استعمال جملة من الأسلحة في النزاعات ولو شكليًا.
طبيعة التعامل مع التحول الثقافي وما يحدثه من تغييرات لا ينبغي أن تكون من صنو آليات ضبط باقي المجالات. ذلك أن التغيير القسري في نظم القيم، يكون بشكل أو بآخر ممهدًا للطريق من أجل الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، أو تابعًا له. الأزمة من هذا المنطلق، كامنة في نموذج برمته وفي الفلسفة التي يقوم عليها كما أسلفنا، وليس في أعراض قد تحتاج علاجًا أو تدخلًا جزئيًا أو علاجًا وقائيًا لوقف النزيف.
هذا القول لا يعكس نزعة تشاؤمية ترسخ الاستسلام واليأس، وإنما للتنبيه إلى الوعي بمخاطر الهندسة الثقافية الجديدة للإنسان والمجتمع. الوعي شرط من شروط الفعل والتجاوز لنزعة التفكيك والهدم وتجريد الإنسان من كل مقومات المناعة التي تعبر عن الفطرة والحس النقدي الذي يبرز استبطان الإنسان للإرادة الحرة الرافضة لكل أشكال الإخضاع والتذويب القسري في قوالب جاهزة. ما دامت مداخل هذا المنحى ثقافيًا ترتبط ببناء وعي وإنسان جديد يحمل تطلعات جديدة، فإن مدخل ذلك حتمًا هو الثقافة.
تغيير المنظور الثقافي لا يتم على شاكلة باقي أنماط التغيير التي نعاينها في حياتنا اليومية السياسية والاجتماعية، وإنما تستبطن تغييرًا هادئًا في الجينات الثقافية للإنسان، تظهر ملامحه على مدى زمني طويل، وذلك لاستعانتها بالوسائط الثقافية والإعلامية الناعمة في هندسة الإنسان والمجتمع الجديد.
ميكانيزمات الهندسة الثقافية للإنسان الجديد
الهندسة الثقافية عمل ممتد في الزمن، تتوسل الاشتغال على ميكانيزمات الوعي الفردي والجماعي، بهدف التحكم فيه وفي اختياراته وتوجهاته على المدى البعيد. تتحول جملة من اختيارات الإنسان وتمثلاته ورؤيته لذاته وللعالم ولما يحمله من قيم وتصورات، إلى ما يناقض كينونته ويهدرها ويسلب إرادته الحرة وإن استشعر خلاف ذلك. بل إن الإنسان الفرد داخل هذا النموذج قد يعتبر نفسه حرًا مطلق الحرية في اختياره ما يريد وفيما يفعل، لكنه في واقع الأمر مسلوب الإرادة والحرية معًا، وهو ما يستدعي ديناميات ثقافية واجتماعية وسياسية جديدة، تعيد للإنسان كينونته المهدورة.
تسعى ميكانيزمات الاشتغال على الوعي الثقافي، إلى تغذية الوهم لدى الأفراد والجماعات بالتحرر الكامل على مستوى الإرادة، لكن واقع الحال يجعل وعي وسلوك الأفراد يتحرك بشكل لا إرادي وفق إرادة وهندسة وأهداف الغير.
الغير هنا هي الأطراف المستفيدة من تطويع الإنسان واستعباده بأشكال وأدوات غير معهودة، لا توظف بالضرورة السلاسل والأغلال الموروثة من القرون الخالية، بل أغلالًا وسلاسل تشتغل عليها شركات ومؤسسات تخدم السوق والنسق المهيمن، من خلال التحكم في الشعور والوعي، بتوظيف جملة من المعارف والعلوم الخادمة، من علم النفس ومقارباته إلى الذكاء الاصطناعي وعلوم الاتصال والفنون السمعية والبصرية، وغيرها.
ومؤشر ذلك أن أي فعل في أي قُطر من أقطار العالم، حينما يذكّر بالبعد المركب للحرية والإرادة والكرامة الإنسانية التي لا تتجزأ، يجعل هذا النموذج يكشف عن تناقضاته، فينكشف الزيف عن سحر المقولات المؤسسة، ذلك أن التقدم الراهن في حقيقته -أو في جوانب كثيرة منه- قد سلب الإنسان أعز ما يملك، وهي حريته واستقلال إرادته.
ولعل الاحتجاجات التي تشهدها الجامعات الأميركية تعكس مثالًا للوخز الذي يكون معه الرد عنيفًا، كما أنها تبرز حسًا أخلاقيًا يعبر عن الطبيعة الإنسانية التي ترفض الطمس، بالإضافة إلى الدور النقدي الذي ينبغي أن تضطلع به النخب التي تنتسب إلى الحقل الأكاديمي والثقافي.
لقد كانت الصبغة التي اصطبغ بها العالم الحديث، في نزعته الشمولية والمخاطر التي يحملها على الإنسان والمجتمع الإنساني برمته، موضوع مقاربة ومعالجة من عدد من الحقول المعرفية، من الفلسفة إلى الأدب، ثم أخيرًا ظهور دعوات تنبه إلى أهمية الأخلاق والنزعة الأخلاقية في حفظ المجتمع الإنساني.
نستحضر من تلك النماذج الفلسفية مدرسة فرانكفورت وحسها النقدي الذي اتسمت به في نقد العقل الأداتي في مراحلها المتتالية، وقد كان الانتباه إلى الانعكاسات السلبية لوسائل الاتصال الجماهيري على الإنسان وأهمية الثقافة والصناعة الثقافية في حينه جد مهمة. كما اتسمت المقاربة النقدية لإريك فروم (في كتابيه: “الإنسان بين الجوهر والمظهر” و”الخوف من الحرية”) وغيره من علماء النفس بالكشف عن الأزمة التي تولدت مع النموذج الحديث، وأهمية القيم المتسامية باعتبارها علاجًا وملاذًا من الاضطراب والتوتر الذي خلقه النسق الحديث.
في حقل السوسيولوجيا، كان بيير بورديو وما يزال إدغار موران إلى الآن يعتب على العالم انحرافاته والمهالك التي يتجه إليها. يمكن التمثيل في عالم الأدب برواية “عالم جديد شجاع” لألدوس هكسلي، والتي استبطنت انتصارًا للشعور والإرادة الإنسانية على حساب النزعة الشمولية مع تحذيره منها وتنبُّئِه بمستقبلها المخيف الذي تحمله للإنسانية. وقد عدت روايته التي أثرت بشكل مباشر في جورج أورويل ليصيغ شبيهًا لها، محذرًا من النزعة الشمولية في السياسة، كما هي رائعته “1984”.
تبقى هذه النماذج التي استحضرناها مؤشرًا دالًا على الوعي المبكر بالخطر الذي يتعرض له الإنسان والمجتمع الإنساني، وهو ما استمر إلى حدود اللحظة الراهنة، لكن الوسط الأكاديمي نفسه شهد هو الآخر تحولات جعلت منه أداة في الهيمنة، وليس عنصر تنوير وتحرير للإنسان مما قد يكبل عقله ووجدانه، إلا ما تحتفظ به بعض الحقول المعرفية أو التيارات النقدية نظرًا لتقاليدها العلمية واتصالها المباشر بالهواجس التحررية للإنسان.
ختامًا
كانت جملة من تلك التحولات، في سياق هيمنة الدولة الوطنية وما تتسم به من أذرع ووسائل أيديولوجية تمرر أيديولوجيا الدولة. لكن على الرغم من ذلك، فإن الدولة الحديثة وما بها من سلبيات بخصوص اختراق المجتمع وتكبيله، كانت وسائطها تحافظ على الحد الأدنى من التعاقدات الملزمة فيما له علاقة بالإنسان وتطلعاته الثقافية والسياسية والاجتماعية.
يهمنا هنا المنحى الثقافي وموقع الإنسان الذي كان ينظر له من منطلق المواطنة الذي تربطه بالدولة جملة من الحقوق والواجبات، وهو ما ضمر وتراجع مع ضمور دور الدولة وهيمنة الشركات التي يحكمها هاجس الربح المالي.
هذا ليس الهاجس الوحيد حتمًا، بل أصبحت الصناعة الثقافية وتنميط القيم أحد المجالات التي هيمنت عليها الشركات العابرة للحدود والثقافات، والأصح أنها الهادمة للحدود والثقافات، لا سيما في ظل عالم تشكل الميديا الجديدة فيه أداة فعالة في هندسة الواقع والمستقبل الإنساني. بل إن الدولة تحولت هي الأخرى إلى مجرد أداة في بسط الهيمنة والسيطرة وضبط أشكال التمرد والرفض، مما يعني أن التحول الذي نشهده مع ثورة الوسائط الثقافية والإعلامية وطبيعة الرسالة التي يراد للإنسان الجديد تمثلها في عملية خضوع إرادي، ليست شكلية أو محايدة، ومن يمتلك وسائط صناعة الثقافة والوعي يمتلك المستقبل.
فهي سلطة فوق السلطات، وسيظهر ذلك بشكل جلي في المقالة المقبلة، حينما نبرز تجلياتها العملية ومضامينها القيمية والثقافية وطبيعة تأثيرها على الإنسان، نموذج الإنسان الجديد، الذي يتم التلاعب بهويته الجندرية، فكيف بباقي اختياراته وتطلعاته؟ سنكون بالطبع أمام منظور خاص للدين في فهم موقع الإنسان في الوجود.
الجزيرة