ذ.محمد كندولة
ذكر الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري في كتابه” الاستقصا لأخبار المغرب الاقصى” أن محمد المتوكل على الله ، كان فقيها، أديبا، مشاركا، مجيدا، قوي العارضة في النظم و النثر، لكنه كان متكبرا، تياها، غير ميال لأحد ولا متوقفا في الدماء ، عسوفا في الناس ، كما أنه كان فظا غليظا، مستبدا ظالما ، ومن شعره :
فقم بنا نصطبح صهباء صافية ÷ في وجهها عسجد في وجهه نقط
وانهض إليها على رغم العدا ÷ فإن تأخير أوقات الصبا غلط
قتل إثنين من إخوته عند وصول الحكم، فكرهه الناس ، الخاصة و العامة، فخلع عن الحكم ، فخاض معركة مع عميه عبد المالك السعدي و أحمد المنصور الذهبي قرب مدينة فاس ، ففر هاربا إلى جبال سوس ، فكون جيشا من الصعاليك بما بث فيهم من الأضاليل و الوعود الكاذبة، لكن عبد المالك فاجأه في مراكش ، ففر هاربا مرة أخرى إلى سوس ومنها إلى سبتة ، ثم دخل طنجة ليستنجد بالملك المتهور “دون سيبستيان” فكانت معركة وادي المخازن ، أو معركة الملوك الثلاثة، أو معركة بدر المغربية كما سماها العلامة ابن القاضي ، فكانت الخيانة الكبرى للأهل والدين و الوطن ، وكان جزاء الخائن من شعبه بأن سلخوه ، وملؤوا جلده تبنا، وطافوا به في مدينة مراكش جزاءا وفاقا، فالرجل رغم علمه وثقافته وأدبه لم يحبسه ذلك عن خيانة شيوخه ، وأساتذته ، وكل من علموه وأدبوه ، وكذلك يفعل بكل مثقف خائن ،حاد عن دوره الاجتماعي ، ومهمته الثقافية و السياسية ، يقول لينين” المثقفون أقدر الناس على الخيانة ، لأنهم أقدر الناس على تبريرها”
لكن كيف يبدأ المشروع الخياني ؟ وماهي تجلياته ومظاهره ؟
تبدأ الخيانة عند المثقف بنقض التزاماته اتجاه نفسه ،أولا ، ثم اتجاه مجتمعه ثانيا ، ففي الأولى يتساهل المثقف الخائن في العمل على تنمية قدراته المعرفية ، ويتجاهل علاقاته الاجتماعية ، حيث يشعر بالاكتفاء الذاتي ، الشيء الذي يصيبه بكمال العقم ،كما يقول مالك بن نبي ، فلا يبشر بما يراه حقا، ولا يحذر مما يراه باطلا ، يشترك في ذلك الواعظ و المدرس والصحفي و الروائي وغيرهم . أما في الاتجاه الثاني ، فإنه لا يحرص على مصالح مجتمعه كافة، لا فيما يخص نظافة المرافق العامة، ولا نظافة مراكز العمل السياسي، يغض الطرف عن الفساد ويستمرئ القذارة في الشوارع ، ولا يستمرئ التبشير بالذوق الجمالي في أحوال الناس ، ومناشطهم ، ينتصر لقضية جانبية ، ويهمل قضايا كبيرة بتهميشها وإبعاد الناس عنها.
المثقف الخائن ، تعجبه المصادمات ، لا التنوير ، يتعصب لفن دون آخر في الرياضة و اللباس.. يصارع في الجزئيات ، ويغض الطرف عن الكليات ، وذلك بلغة عقيمة ، رغم أن له رسوخ في العلوم فإنه يتهاون في التواصل لتبليغ الرسالات.
المثقف الخائن مروج للتفاهات في الفن و الإعلام و الثقافة وغيرها ، يصطنع من أجلها معارك دائمة ، تقضي على جهد الإنسان ، وتذهب طاقته ، وتصرفه عن المهمات الكبرى.
المثقف الخائن ، لا ينفتح على وجهات النظر الأخرى ، لا يقبلها ، و لا يقبل سماعها ، و لا يشارك في نشرها، بل يعمل على ردها وتسفيهها.
المثقف الخائن ، لا يجتهد في تنويع وسائل الاتصال ، فيترك الإذاعة و التلفزة ،والكتابة المستمرة ، ولا يرتاد مجالس النقاش مع الزملاء ، فيكتفي بالقول ” أنا أصدر لكم الأفكار فقط” فيزيح عنه مسؤولية النقد مرة ، و مسؤولية المشاركة في فضاءات المجتمع .
المثقف الخائن ، يهتم بالمتخيل ، ويترك الممكن ، يترك الواقع ويهتم بالخيال و الأحلام، فلا يهتم بما يصلح المجتمع ، ولا يسأل في الأفكار وأصحابها ، ولا يساهم في خلخلة المشاكل ، وحلحلة النتائج.
وأخيرا نقول ، أمراض المثقفين الخونة كثيرة ، فبالإضافة الى ما اتصف محمد المتوكل السعدي ، يمكن أن نزيد عليها الامراض التالية : التعالي و التشامخ على الناس ، الحسد وضيق الافق ، الغرور ،و الاعتداد بالنفس بإلغاء الآخرين ، فيرى نفسه مبدعا لا متخذا للمواقف ،فيضر بالناس ومن حوله .
والجدير بالذكر أن نهايات المثقفين الخونة هي السلخ والابعاد و النفي ، فضمير الأمة يقظ ، ومزاج الناس متحد على الحق و العدل، ذكر أن العز بن عبد السلام قال ” من نزل قرية وقد تفشى فيها الزنا فحدث الناس عن الربا فقد خان الله ورسوله”
قال تعالى “ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم وانتم تعلمون ” الانفال.
صدق الله العظيم.