ذ.عبد القادر الفرساوي
تُحكى الأساطير عن البحر الأزرق اللامتناهي الذي كان يوماً معبراً للآمال والأحلام، غير أنه في صيف عام 2024، تحول هذا البحر إلى مقبرةٍ رهيبة. هناك، في عمق المياه التي كانت تنبض بالحياة، ترقد أحلام بريئة مدفونة تحت أمواج قاتلة، غير مرئية لأعين العالم المتغافلة.
في النصف الأول من هذا العام، تساقطت الأرواح على شواطئ إسبانيا كأنها أوراق خريفية ذابلة، لتكشف عن عدد من المفقودين يفوق الخمسة آلاف شخص. بين هؤلاء الضحايا، كان الأطفال والنساء أبرز الأرقام الصادمة، إذ سُجِّلَ مقتل 154 امرأة و50 طفلاً. هؤلاء كانوا أضعف الحلقات في سلسلة الرحلات المميتة عبر البحر، ومع ذلك، كانوا أول من يدفع ثمن الإهمال العالمي.
تتحدث التقارير عن مأساة إنسانية تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم، حيث لا يتجاوز عمر هؤلاء الأطفال سنّ الطفولة، وقد حُرموا من رؤية عالمهم الذي لم يُمنح لهم بعد. النساء، اللواتي اجتمعن على قوارب الموت هربًا من نيران الحروب والمجاعات، لم يكنّ أكثر حظًا من أطفالهن. لم يكن الإحصاء مجرّد أرقام، بل كان مرآةً تعكس عمق المأساة وفداحة الألم الذي يعانيه هؤلاء الأفراد، في عالمٍ يتجاهل معاناتهم.
في مكانٍ آخر، حيث تتعالى صرخات الأطفال على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، تتكشف تفاصيل مأساوية أكثر. وفقاً لآخر الأرقام، وصل عدد الأطفال الذين فقدوا حياتهم هذا العام إلى 289، بينما بلغ عدد القاصرين غير المصحوبين الذين حاولوا الهجرة إلى إيطاليا 11600 طفل، بنسبة زيادة بلغت 60% عن العام الماضي. هؤلاء الأطفال لم يكونوا في فصول دراسية، بل كانوا يركبون قوارب الموت هرباً من الفقر والجوع والحروب، ليصبح البحر بالنسبة لهم مقبرةً فسيحة لا تسمع صرخاتهم.
إن النقص في وسائل البحث والإنقاذ، واستخدام التكنولوجيا بشكلٍ مفرط في تأمين الحدود، يعكس مدى تجاهل الدول الغربية لمأساة هؤلاء المهاجرين. بدلاً من العمل على تحسين أوضاعهم وحمايتهم، تُفَرض القيود، وتُستَخدم تقنيات تكنولوجية تُفاقم من معاناتهم. إن زيادة العنف والرقابة على الحدود تتركهم لمواجهة مصيرهم المظلم دون أي تدخل فعال لإنقاذهم.
تتحدث القوارب التائهة عن بحارٍ هائجة، تحمل أحلاماً مفقودة وأرواحاً صرخت في صمت. إن صرخات هؤلاء الأطفال والنساء، المكبوتة تحت أطنان من المياه المالحة، تسلط الضوء على حاجة ماسة إلى التغيير. يحتاج العالم إلى الوقوف وتأمل في أفعاله، ويجب على الدول أن تعيد النظر في سياساتها وتلتزم بمسؤولياتها تجاه الإنسانية. إن إنقاذ الأرواح، خصوصاً تلك الضعيفة، ليس مجرد خيار بل هو ضرورة ملحة.