ذ.عبد القادر الفرساوي
في ليلة باردة من ليالي ميلانو، حيث يتصارع ضجيج السيارات مع صمت الشوارع المظلمة، كان رامي الجمل، ابن الثمانية والعشرين عاما، يحاول الإفلات من قدره. كان على متن دراجة نارية، رفيقه مهاجر تونسي، بينما يتنقلان بين أزقة المدينة. لم يكن يعلم أن هروبه من نقطة تفتيش سيضعه في قلب مأساة غيرت حياته إلى الأبد. كانت تلك الدراجة النارية، التي حملته عبر شوارع الغربة، ستصبح الشاهد الصامت على مطاردة انتهت بمأساة. وحين توقفت العجلات، كان جسده هامدا، وكأن أحلامه تحطمت تحت ثقل مطاردة لم تكن عادلة.
رامي، الذي حمل اسما عربيا ثقيلا بمعانيه، كان دائما يشعر بغربته، ليس فقط لأنه مهاجر، بل لأن اسمه وحده يكفي ليجعله هدفا للشكوك. “رامي”، ذلك الاسم الذي يمكن أن يُفهم بأكثر من معنى، جعله يبدو كأنه “رامٍ” لشيء لا يملكه؛ رموه بالتهم، ورموه أرضاً، وكأن الاسم قدرٌ محتوم. ولو كان اسمه ماركو أو أليساندرو، هل كان مصيره سيختلف؟ هل كانت الشرطة ستطارد الدراجة بنفس القسوة؟
“الجمل”، لقبه الذي يُذكر بالصبر والمثابرة، كان يعكس حقيقته. مهاجرٌ صبر على شقاء الغربة، وحمل في قلبه ألم الفراق عن أهله. كان يرسل لعائلته في مصر ما يستطيع من رزق، لكنه دائما يشعر بالحنين إليهم. في ليالي ميلانو الباردة، كان يحلم بالعودة إلى أمه التي تنتظره، وأبيه الذي علّمه أن الكرامة لا تُباع. لكنه لم يعد كما أراد؛ عاد جثمانا يحمل معه قصة غربة ووجع.
اندلعت الاحتجاجات في حي “كورفيتو”، حيث كان المهاجرون يتظاهرون غضبا على مقتل رامي. أغلبهم مصريون، جاءوا ليطالبوا بحق الشاب الذي رأوا فيه انعكاسا لواقعهم. كان الدخان يتصاعد في السماء، مختلطا بصيحات الغضب، بينما كانت الشرطة تتأهب لمواجهة من تراهم “مثيري شغب”. كان الغضب أكثر من مجرد رد فعل؛ كان تراكما لقهر طويل شعر به المهاجرون الذين يعيشون في الظل.
الحادثة أعادت إلى الأذهان مآسي أخرى في أوروبا. في فرنسا، قُتل الشاب الجزائري نايل مرزوق، برصاص الشرطة خلال تدقيق مروري، مما أشعل احتجاجات في الضواحي الباريسية. وفي ألمانيا، مدينة هاناو شهدت هجوما إرهابيا راح ضحيته تسعة مهاجرين، جميعهم قُتلوا بدم بارد لأنهم لم يكونوا “ألماناً بما يكفي”. هذه الحوادث، وإن اختلفت ظروفها، تحمل جميعها القاسم المشترك ذاته: كراهية متجذرة للمهاجرين، وسياسات يمينية تُفاقم الألم.
الخارجية المصرية أصدرت بيانا أكدت فيه متابعتها للتحقيقات، وقدمت التعازي لعائلة رامي. لكن هل يكفي البيان لإعادة الروح لشاب فقد مستقبله على أرصفة الغربة؟ كيف يمكن لبيان أن يخفف وجع أم لن ترى ابنها مرة أخرى، أو يرمم قلب أب كان ينتظر أن يرى ثمرة كفاح ابنه تعود إليه؟
رامي الجمل لم يكن مجرما، ولم يكن إرهابيا، كان شابا بسيطا يبحث عن فرصة للحياة. لكن اسمه، لقبه، وربما ملامحه، كانت كافية لتحوله إلى هدف. في بلاد تُعامل المهاجر كعبء، يصبح مجرد العيش تحديا، والنجاة معجزة.
ميلانو، المدينة التي تغنى بها الشعراء ووصفها الأدباء، باتت شاهدا على مأساة جديدة. أرصفتها تحمل آثار موت رامي، ودخان الاحتجاجات يشهد على الألم المكبوت في صدور المهاجرين. تلك المأساة لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، طالما استمرت أوروبا في إدارة ظهرها للعدالة الحقيقية.
هل ستتعلم إيطاليا، وأوروبا بأكملها، من هذه الحادثة؟ أم أن أسماء جديدة ستُضاف إلى قائمة طويلة من الضحايا؟ ربما لن يأتي الجواب قريبا، ولكن ذكرى رامي الجمل ستظل شاهدة على صراع لم ينتهِ، وعلى حلم لم يُمنح الفرصة لينمو.