أجراه محمد عبد الجبار
• ما هي الثقافة كتعريف علمي؟ ومَنْ هو المثقف؟
التعاريف العلمية لأي مفهوم تختلف اختلافًا نسبيًّا باختلاف المذاهب الاجتماعية، والمنظورات الفلسفية، ومن عصر لآخر يتقدم فيه العلم، أو ينتصر فيه هذا المذهب. وفي نظري: الثقافة هي المعرفة، أو الإلمام ماضيًّا وحاضرًا بقضايا الواقع الذي يعيشه الشخص في مجتمعه، وعلاقاته وارتباطاته بالمجتمعات الأخرى، وقدرته نوعًا على التحليل والربط والمقارنة والتعبير عامة من خلال وضعه الاجتماعي.
فالمثقف -على هذا الأساس- هو المطلع على تراث شعبه؛ العارف بواقع أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية؛ القادر ( في مواكبة ومتابعة تيارات الفكر المعاصر وقضاياه) على فهمها، والتفاعل معها بموقفٍ فاعل ملتزم بمشاعر وتطلعات جماهير الشعب بصدقٍ وإخلاص، خالٍ من الافتعال والتملق والاستئجار. فأنا -شخصيًّا- لا أعتبره مثقفًا مَنْ يكرس جهده فقط في أن يقرأ مثلاً انجلز كعنوان للفلسفة المادية دون أنْ يقرأ هيجل والفلسفة المثالية.
إنَّ الغزالي قرأ ابن رشد( )؛ فكتبَ «تهافت الفلاسفة»، وابن رشد قرأ الغزالي فكتب «تهافت التهافت»، كما لا أعتبره مثقفًا يمنيًّا من لم يعرف شيئًا عن مؤلفات عبد الله بن أسعد اليافعي، أو أي إحصاء عن مساحة القمح المزروعة في منطقته، ولكنه يتفيهق بألفاظ يحفظها عن ظهر قلب ككليشات وقوالب رائجة يتعالم بها، ويتحذلق على السذج والبسطاء من أبناء شعبه كالديالكتيكية، والتوتاليتارية، والكسموبوليتية… إلخ.
والمثقف العربي ليس بشيء إذا لم يبدأ على الأقل بفهم الثقافة العربية كما بدأ المستشرقون المنصفون قبل أكثر من مائة عام، فعرفوا الماوردي، وابن خلدون، وابن رشد الذين عاصروا غزو الصليبيين، وهجمة التتار، كيما ينتقل في الوقت ذاته معاصرةً إلى الغوص في أغوار نفسه يسألها عن أسباب الاقتتال المأساوي في لبنان، والمؤامرة المطوقة للفلسطينيين، والتفكك اللامبرر للقوي التقدمية، والسلب المستمر للثرواث العربية، والإصرار والتصامم عن فهم العوامل التي أدت إلى النصر في «عين جالوت» ضد المغول، وفي «حطين» ضد الصليبيين؛ وإجمالاً ضياع الهوية، والرضا بالتبعية دون اعتماد على الذات ومعطيات العلم.
• هناك تراث يمني ثقافي وحضاري؛ هل لنا أن نعرف الفرق بينهما، وكذلك الصلة بينهما؟
التراث هو خلاصة المعارف والمشاعر والتجارب التي يقدمها كل جيل إلى الجيل الذي يعقبه؛ وهو بهذا المفهوم يشمل الثقافة والحضارة. ويرى بعض الباحثين في التفريق بين الثقافة والحضارة: إنَّ الثقافة تلح على ما هو حي، والحضارة على ما قد أُنْجِز، ولكني أعتقد أنَّ التعريفين غير دقيقين. فالثقافة تشمل أيضًا ما أُنْجِزَ من معارف وآداب وفنون وعادات، وتستمر في الإنجاز، أو تتوقف لعوامل. وكذلك الحضارة تشمل ما أُنْجِزَ في الماضي من طراز حياة، وأنماط عمارة، وأساليب ري، ووسائل معيشة، ونظام حكم، وفنون حرب، وعلاقات دول، وتستمر في الإنجاز، أو تتوقف لعوامل؛ وهذه العوامل ترتبط بمستوى الجيل الحضاري الذي يتلقى هذه الثقافة أو الحضارة تدنيًّا وصعودًا.
وطالما قيل أمة كانت ذات ثقافة عظيمة؛ بمعنى أنها الآن ليست كذلك، وأنها في دور ركود، أو كانت ذات حضارة عريقة، وهي الآن في دور توقف أو نهوض.
على أنه يبدو لي أنَّ مفهوم الحضارة يحد النشاط العملي من الحياة، بينما الثقافة تمثل التعبير عن الجانب الفكري؛ ومن هنا تكون الصلة بين الحضارة والثقافة صلة جدلية جدلية الحياة نفسها، لكني إذ أقول: إنسان حضاري أو متحضر يغلب على ظني أني في الوقت نفسه أدرج تحته مفهوم إنسان مثقف.
• هناك جانب من تراثنا مبعثر وضائع في المكتبات العربية والأجنبية؛ هل بالإمكان الاستفادة منه؟ وما هي الطرق والوسائل لذلك؟
من المؤسف -ما هو معروف- مِنْ أنَّ تراثنا في مجال هو في خارج اليمن أكثر منه في داخلها؛ لعوامل تاريخية معروفة تتلخص كلها إلى التخلف الحضاري الذي عاناه اليمن، ولا يزال. فالموجود -عدا النقوش- من المخطوطات اليمنية في «مكتبة الامبروزيانا»، أو في «المتحف البريطاني»، أو «جامعة كمبردج»، أو «أكسفورد»، أو «ليدن»، أو «الاسكوريال»، أو «تونبجن» بألمانيا، أو «المكتبة الأهلية» بباريس، أو بمكتبات «استامبول»، أو «مكتبة خدابخش بتنه»، أو «رضا رامبور»، بالهند، أو «الآصفية» بحيدر أباد- تُعدُّ بالآلاف؛ ولعل أقلها الموجود في المكتبات العربية كـ «دار الكتب» بالقاهرة، أو «الظاهرية» بدمشق.
وأعتقد أنَّ المشكلة بالنسبة لما هو خارج اليمن في أقاليم عربية أو بلدان متحضرة لا تشكل ضياعًا بمعناه الفعلي؛ لأنَّ جميع هذه المخطوطات في الواقع محفوظة وخاضعة لأحدث وسائل وشروط التقنية العلمية في الصيانة والرعاية، كما أنه يمكن لو توفرت الإمكانيات المادية لنا الحصول على نسخ منها بتصويرها، أو نسخ من أفلام الميكروفيلم للنسخ المصورة منها.
وقد قام «المركز اليمني للأبحاث الثقافية» بخطوات عملية في هذا المجال؛ فصور بعض المخطوطات الهامة في أوروبا، وطلب من «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» بجامعة الدول العربية نُسخًا مصورة من المخطوطات اليمنية، أو أفلام ميكروفيلم عن المخطوطات المصورة.
لكنَّ المشكلة الحقيقة في الحفاظ على المخطوطات داخل اليمن نفسها. إنَّ المخطوطات في المناطق اليمنية موزعة بين الأسر، وهذ الأسر ما لم تكن لها خلفية ثقافية، فإنها قَلَّ أن تعتني بها، ويأتي نظام التوريث على أساس الأسهم؛ فيوزع الكتاب ذو الأجزاء على الأسر أو الأفراد جزءًا جزءًا دون فهم أصحاب القسمة بقيمته ككل؛ فيضيع الكتاب، أو تفقد أجزاؤه.
وبالمقابل، فإنَّ الحكومات أيضًا لم تنتبه إلى أهمية جمع المخطوطات والحفاظ عليها إلا متأخرًا؛ كذلك فإنَّ الوسائل التي اتبعت في طريقة جمعها من الأسر أو الأفراد لم تكن في مجملها مجدية ووافية بالغرض، وغالبًا ما كانت النوعية من الناس الذين عهد لهم بالمسئولية في هذا المجال لا خلفيةَ لديهم عن هذا التراث العظيم، وربما اشتمل عملهم على نوع من اللامبالاة والإحساس بعدم استحقاق العمل الذي يمارسونه بأيِّ شيء من التقدير؛ لأنهم يعتقدون أنهم يمارسون عملاً مع أشياء قديمة: «مخطوطات»، «نقوش»؛ والقديم- في نظرهم التقدمي الجديد- يَصِمُهم بوصمةِ الرجعية، وتقابل الجدية فيه بالتعجب، وربما يستثار اهتمامهم أحيانًا إذا لاحظوا اهتمامًا من بعض المستشرقين؛ وكل هذا -ولا شك- تعبير عن تخلف حضاري مرعب يذكره المثقفون بأسفٍ ومرارة، ولكنه الواقع الذي لا يستطاع إخفاؤه، وهو واقع يشيع على امتداد الساحة العربية كلها تقريبًا إلا من بعض البلاد العربية التي تقدمت تكنولوجيًّا، وعرفت أهمية التوثيق العلمي.
في كل الأحوال لا بد من التنسيق بين «المركز اليمني للأبحاث الثقافية»، في الشطر الجنوبي، و«مركز الدراسات» في الشطر الشمالي في مجال حفظ التراث وصيانة المخطوطات؛ فعندما نجمع بالنسبة للشطر الجنوبي المخطوطات الموزعة الآن في المكتبات العديدة في حضرموت (م/ 5) ( ) في ثلاث مكتبات أساسية على الأقل، وتتواجد في المركز صور بالميكروفيلم لمختلف المخطوطات اليمنية في أوروبا، والبلاد العربية، ومن داخل اليمن أيضًا، نكون إذ ذاك قمنا فعلاً في مجال المخطوطات بجمع تراثنا المبعثر، والأمر كذلك بالنسبة للشطر الشمالي.
ينطبق الأمر كذلك على موضوع النقوش؛ فالتخطيط المسبق لاكتشاف الآثار، ومن ضمنها النقوش أمرٌ من الأهمية بمكان كبير جدًّا، ويترتب عليه الكشف عن حضارتنا ومدنيتنا؛ فيجب أن نأخذ مسئولية العمل فيه على عاتقنا، وإذا لم تمكنا إمكانياتنا العلمية والمادية، فينبغي أن نعقد الاتفاقيات الدولية حوله بضمانات واحتياطات كبيرة.
أمَّا إمكانية الاستفادة من هذا التراث فهو تساؤل أعتقد أنَّ الرد عليه محصل من مجمل الردود على الأسئلة السابقة، ومن الحوار ككل، ولنعطِ مثلاً الاستفادة من هذا التراث في مجال المخطوطات؛ إنها استفادة لبدهيتها لا تكاد تحتاج إلى شرح.
ولكن مهما يكن من شيء، فإنَّ إمكانية الاستفادة تكون بتحقيق القَيِّم من هذه المخطوطات في أيِّ فن من الفنون، وطبعها، ونشرها؛ كشفًا عن مدى ما وصلت إليه الثقافة والحضارة اليمنية من مستوى ومساهمة في إغناء التراث العربي بنشر أمثال هذه الضنائن، وربطًا لحلقات مفقودة في سلسلة أحداث التاريخ العربي يضعها نشر مثل هذه المخطوطات في مكانها الشاغر؛ وبالتالي يدرك الجيل اليمني -بالاطلاع على هذا التراث- أنه وليد حضارة عربية عريقة؛ فلا يحتار في أنْ يقتات من فُتَات أية مائدة تعرض عليه بشكل مزوق، ولا يتردد في الوقت نفسه في أنْ يأخذ بقوة بأسباب المعاصرة، وتقنيات العلم باستعداد حضاري فعلي، وبفهمٍ ثاقب مستقل بمقتضيات واقعه.
(1 ) لم يقرأ الغزالي لابن رشد؛ إذ توفي الغزالي قبل ولادة ابن رشد بخمسة عشر عامًا؛ وإنما قرأ لابن سينا والفارابي والتراث الفلسفي بشكل عام. توفي الغزالي (505هـ)، وكانت ولادة ابن رشد في (520هـ).
(2 ) في جنوب الوطن قبل الوحدة كان يطلق على المحافظات بالأرقام. وعلى هذا فمحافظة حضرموت كانت بحسب التقسيم الإداري هي المحافظة الخامسة (م/5).