الجيش الإسباني في مأزق: لماذا يعزف الشباب عن الخدمة العسكرية؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عبد القادر الفرساوي

 

 

 

في الماضي، كان الانضمام إلى الجيش رمزا للفخر والانضباط، حيث تتجسد القوة في الزي العسكري، والمجد في ساحات التدريب، والاستقرار في الحياة المهنية الطويلة. لكن شيئا ما تغير، وكأن المغامرة لم تعد تستحق العناء، وكأن الجيش لم يعد الوجهة التي تحلم بها الأجيال الجديدة. في إسبانيا، لم تعد المشكلة في عدد المجندين الجدد فحسب، بل في أولئك الذين يرحلون قبل أن تبدأ رحلتهم.
الأرقام لا تكذب. أكثر من 5700 جندي غادروا في عام 2024، بينما لم ينضم سوى 4086 مجندا جديدا، مما يترك فجوة يصعب سدها. لكن الأخطر من ذلك هو أن 6.6% من المقبولين يتراجعون عن الانضمام قبل حتى أن يوقعوا التزامهم الأول. يبدو الأمر وكأن فكرة الخدمة العسكرية تفقد بريقها شيئا فشيئا، وكأن الشباب لم يعودوا يرون في الجيش مستقبلا، بل محطة عابرة لا تستحق التضحية.
لكن ربما هناك ما هو أعمق من مجرد الرواتب والمحفزات. العالم يشتعل بالحروب، والصراعات تتزايد، والحدود لم تعد آمنة كما كانت بالأمس. في السابق، كان الجيش يعني حياة مستقرة، أما اليوم، فإن كل جندي قد يجد نفسه في مهمة بعيدة، في أرض غريبة، وسط تهديدات لا يفهمها بالكامل. فهل هذا الخوف هو ما يدفع الشباب للعزوف عن الانضمام؟
ثم هناك الوحدة… ذلك الشعور الثقيل الذي يزحف ببطء في ليالي المعسكرات، حين يصبح السرير المعدني باردا، والممرات الطويلة صامتة. كم من جندي وجد نفسه بعيدا عن أهله، أصدقائه، مدينته، وحتى عشيقته؟ في لحظة ما، عندما يختفي صخب التدريبات وتخفت الأوامر، لا يبقى أمام الجندي سوى الحنين، ذلك الصوت الداخلي الذي يهمس له عن الليالي الدافئة التي قضاها مع أحبائه، عن الزوايا المألوفة في مدينته، عن ضحكات لم يعد يسمعها إلا في ذاكرته.
البعض يرحل لأنهم لم يجدوا في الجيش ما توقعوه، والبعض الآخر يغادر لأنهم لم يعودوا يحتملون المسافة بين ما كانوا عليه وما أصبحوا فيه. أن تكون عسكريا ليس مجرد وظيفة، بل هو قطع مع الحياة السابقة، مع العادات، مع الراحة، مع الروابط العاطفية التي كانت تمنح الأيام معناها. وهذا الفراق ليس سهلا على الجميع.
وربما، في آخر الليل، حين ينتهي التدريب ويسود الهدوء، يجلس الجندي في زاوية غرفته يتصفح هاتفه، ينظر إلى صور أصدقائه الذين بقوا في مدينته، يحتفلون في أماكن مألوفة، يتبادلون الضحكات في المقاهي التي كان يعرفها جيدا. يتساءل بينه وبين نفسه: هل كان ينبغي عليّ البقاء؟ لكنه يعرف أن القرار قد اُتخذ، وأن الحياة التي اختارها لن تسمح له بالنظر إلى الوراء طويلا، لأن في الصباح، سينطلق التدريب من جديد، وستُمحى الأسئلة تحت وقع الأقدام الثقيلة على أرض الميدان.
ومع ذلك، قد يكون هناك ما هو أعمق من ذلك. في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتشابك فيه المصالح، قد يشعر الشاب بأن الانضمام إلى الجيش يعني التضحية بجزء من هويته، أو الانخراط في صراعات لا يفهمها تماما. ربما يشعر بأن الوطنية لم تعد تعني ما كانت تعنيه سابقا، أو أن حب الوطن يمكن التعبير عنه بطرق أخرى غير حمل السلاح. في النهاية، قد يكون العزوف عن التجنيد ليس خوفا من المجهول فحسب، بل بحثا عن معنى أعمق للانتماء والهوية في عالم متغير.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...