محاكمة ساركوزي: من القانون إلى السياسة والفلسفة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

د. مدى الفاتح
كاتب سوداني

 

بعد سنوات من البحث والتحقيق بشأن اتهام الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بتلقي أموال من الرئيس الليبي المعزول معمر القذافي إبان ترشحه للرئاسة في 2007، قضت المحكمة في الخامس والعشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي بالحكم على ساركوزي بالسجن لخمس سنوات، لتكون تلك أول مرة يتم فيها توجيه اتهام بهذه الخطورة لرئيس فرنسي.
بالنسبة لعامة الفرنسيين، فإن الرؤساء يمثلون فرنسا بشكل من الأشكال، بهذا فإن معاملتهم بشكل غير لائق عبر الإحالة إلى السجن، بما يشمل تفاصيل كالتصوير بطريقة المجرمين والتحول إلى مجرد رقم، والانتقال إلى زنزانة عادية لا تحوي أي هاتف خاص، يظل أمرا مستهجنا، وهو ما يجعلنا نفهم قول ساركوزي: إن ما حدث ليس إهانة شخصية، وإنما إهانة لفرنسا.
الصدمة بدت واضحة على ساركوزي (يبلغ من العمر سبعين عاما)، الذي قام بعدة تصريحات عقب صدور الحكم، اتهم فيها القضاء بالتسييس، ولمح فيها إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تصفية حسابات. عاد الرئيس الأسبق لتأكيد قناعاته تلك في لقاء أجراه مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش»، حيث مضى لأبعد من ذلك متحدثا عن «مؤامرة» وهو يصرّح محاولا أن يكسب تعاطف القراء، بأنه يخوض صراعا باسم «دولة القانون» وأن القضاء انشغل لقرابة الإثني عشر عاما بجمع الدلائل من أجل تبرير إدانته. في البداية بدا الأمر وكأن الجمهور لم يتفاعل مع هذه التصريحات بالاهتمام الكافي، حيث اعتبر كثيرون أن الرئيس الأسبق يحاول التبرير والبحث عن بطولة إزاء اتهام يصعب إنكاره. أما القضاة فقد وجدوا أن هذه التصريحات المسيئة تستحق إضافة اتهام جديد متعلق بإهانة القضاء والتشكيك في نزاهته.
في الأيام التالية كان كل هذا مثار نقاش فلسفي جديد متعلق بالسؤال التالي: هل هناك في العرف الديمقراطي مكان لاتهام بإهانة القضاء؟ مع الأخذ في الاعتبار أن الأصل هو، ألا تكون هناك أي مؤسسة فوق النقد، بما في ذلك المؤسسات العدلية نفسها، خاصة أن احتمال الخطأ يظل واردا، حتى في حالة منظومة التقاضي، التي تمت صياغتها، بحيث تكون محايدة بأكبر قدر ممكن، وبعيدة عن الخطأ. في المقابل فإن من يقولون إن ساركوزي كان مخطئا في نقده، يرون أن هناك فرقا بين انتقاد حكم معين وانتقاد النظام القضائي بمجمله، وهو ما فُهم من تعليقات ساركوزي، الذي بدا وكأنه يتحدث عن مجمل النظام، وهو ما جعل التسامح معه صعبا. تصريحات ساركوزي تفهم وكأنها اعتراض على قاضٍ واحد، وهو ما جعل البعض يذهب إلى أن القاضية الرئيسية، ربما كانت لديها مشكلة في وقت ما معه، إلا أن الحقيقة هي أن هذه القضية أخذت بالفعل وقتا طويلا، ما جعل عشرات القضاة يتعاقبون على متابعتها، ويعملون على صياغة أحكامها وتفاصيلها. هذا يجعل فرضية النية الشخصية معدومة، وحديث ساركوزي عن انطلاق الحكم من «الكراهية» غير مقنع، لأنه يصعب أن يكون لكل هؤلاء موقف شخصي منه. في المقابل فإن ساركوزي وجد تعاطف كثير من رفاقه اليمينيين، الذين ذهب متعصبون منهم لإرسال رسائل تهديد بالقتل للقضاة، الذين اعتبروا أنهم متورطون في هذا الحكم، أما من الجهة المقابلة فقد كانت شخصيات يسارية تفهم الأمر بشكل مختلف، وتعتبر أن الإساءة الحقيقية لفرنسا هي ما يفعله أنصار ساركوزي بإصرارهم على عدم احترام أحكام القضاء.

في تقييم عام يمكن القول إن ساركوزي نجح باستخدام استراتيجية دفاع من نوع مختلف، فبدلا من الحديث عن جوهر القضية، وعن حدود علاقته بالقذافي، الذي كان لمّح لموضوع دعمه للمرشح ساركوزي آنذاك بالكثير من الأموال، وجدنا ساركوزي ينقل الجميع لمعركة سياسية وقانونية من نوع مختلف، بتكرار الحديث عن الاستهداف الشخصي والتسييس، وبالتركيز على أن الوثيقة الرئيسية، التي اعتمد عليها القرار ثبت أنها غير صحيحة. كان ذلك ناجحا، لأن القراءة الموضوعية كانت تتطلب أن يعود الناس لقراءة مئات الصفحات، التي تحوي حيثيات الحكم ومبرراته، وأن يطلعوا على الكثير من كتب القانون وعلى القضايا المشابهة، وهذا أمر صعب بالتأكيد، لذا فالأسهل كان تبني موقف سياسي لا يخلو من عاطفة. هذه العاطفة سوف تجعل المتعاطفين معه يتجاهلون عمدا الحقيقة الواضحة، وهي أن الوثيقة المشار إليها، والتي كانت المنطلق الأهم لهذه التحقيقات، ليست الدليل الوحيد على وجود جرم، أما الحكم الحالي فهو لم يستند بشكل رئيس إليها، وإنما على العشرات من الدلائل والشهادات الأخرى.
وجد القضاة الفرنسيون أنفسهم في موقف صعب، واحتاجوا في حدث نادر لأن يتواصلوا مع الإعلام، مبررين طبيعة الحكم وهم يحاولون أن يشرحوا أنه، حتى إن كان صحيحا أن الوثيقة غير موثوقة، وأن الملايين المعنية لم تظهر بشكل واضح في الحساب الشخصي لساركوزي، ولا في حساب حملته الانتخابية، إلا أنه لم يكن بالإمكان تبرئة الرجل من تهم «التواطؤ» وقيادة «عصابة إجرامية».
في سياق المناقشات هذا استعاد كثيرون عبارات الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران، الذي كان قد قال، إنه يجب الحذر من القضاء، فهذه المؤسسة ساهمت في القضاء في السابق على الملكية. كان ميتران يقصد أن ما بدأ بشكل بسيط نتيجة لضغط النخب الجديدة بشأن الحد من السلطة المطلقة للملك وإخضاع قراراته للمراقبة، انتهى بذوبان النظام الملكي، لذا فإنه يجب الحذر من أن يتكرر ذلك مرة أخرى مع النظام الجمهوري. هكذا أحيت هذه القضية الحساسية المتعلقة بالعلاقة بين القضاء والسياسة، حيث بدا رئيس سابق آخر وهو فرانسوا هولاند متفقا مع ميتران حينما قال، إن القضاة يكرهون السياسيين، وهو ما يتم توظيفه حاليا في سياق الملاحقات، التي تطال فاعلين سياسيين، كاليمينية المتطرفة مارين لوبان المدافعة عن ساركوزي والمتهمة هي الأخرى بالفساد وتبديد الأموال. استغلت لوبان، التي تقود تيارا من المحافظين المتشددين، الحملة الحالية المنصبة على التشكيك في نزاهة القضاء من أجل توظيفها لصالح قضيتها المعلّقة. من جانب آخر فإن التهديد بالقتل وباستخدام العنف ضد القضاة المتورطين كان مفيدا لها أيضا، فهو أمر قد يخلق بعض التخويف ما قد يؤثر على القرارات العدلية، التي سوف تتخذ ضدها.
فيما يتعلق بساركوزي فإنه، سواء قصد ذلك أم لا، فتح باب قضية فلسفية مهمة، فليس أمام المواطن الفرنسي الآن سوى خيارين بائسين، فإما أن يقتنع بأن ساركوزي على صواب، ما يعني أن القضاء الفرنسي يمكن التلاعب به وتوجيهه باتجاه شخصية عامة حتى يتم اغتيالها معنويا، أو أن يقتنع بأن القضاء على حق، ما يعني بالضرورة إثبات التهم الموجهة لرئيس الجمهورية السابق والمتعلقة بالدرجة الأولى بالفساد، أي تشويه تلك الصورة المخملية العالقة في الأذهان عن الرؤساء الفرنسيين وعن ساركوزي نفسه، الذي يحظى بالاحترام لدى أوساط مختلفة. في الحالتين، فإن الخلاصة سوف تكون، أن النظام السياسي ودولة القانون فيهما مشكلة، وهو ما يكاد يتفق عليه سياسيو اليمين واليسار، الذين يرون ضرورة التغيير، كلا وفق وجهة نظره. هذا التشكيك الجاد في دولة القانون وفي سلطة الصحافة، التي نبعت منها هذه الحكاية، يتزامن مع لحظة تشهد فيه فرنسا أكبر اضطراب سياسي منذ عقود.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...