إدريس عدار
إلى أي حد تطابق نتائج استطلاع الرأي، الذي أجرته الإيكونوميست البريطانية، حول سوريا مع الوقائع على الأرض؟
احتفل أنصار الجولاني بهذه النتائج. وهي مبهرة للغاية. أكثر من 80% يشعرون بحرية أكبر مما كانوا عليه في عهد الأسد. ونسبة تفوق أيضا 80% يؤيدون حكم الجولاني. و70 % من جميع أنحاء البلاد ومن مختلف الطوائف العرقية والدينية عبروا عن تفاؤلهم بالمستقبل. وثلث السوريين يرى أن الوضع الأمني تحسن رغم الاشتباكات.
وقبل قراءة هذه الأرقام أشير إلى أن الإيكونوميست وقعت في خلط أو قصد التضليل عندما تحدثت عن اشتباكات أهلية أو طائفية، مع العلم أن الأمر طوال المدة التي هيمنت فيها هيئة تحرير الشام على دمشق كان العنف موجه مما يسمى الأمن العام تجاه المواطنين السوريين وخصوصا من الطوائف غير السنية ونال النصيب الأوفر من ذلك الطائفة العلوية، التي ينتمي إليها الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
جرى الاستطلاع قبل مارس، أي قبل الهجوم الكاسح على الساحل، موطن الطائفة العلوية، والتي مورست عليها إبادة مقصودة من قبل هيئة تحرير الشام، ورغم المغالطات الكثيرة فقد وقعت إدارة الجولاني في تناقضات بينت أنها مسؤولة عن ذلك.
ففي السادس من مارس أعلنت وزارة دفاع الجولاني عن عملية أمنية بالساحل السوري ضد فلول النظام، وبعد ما انكشفت المجازر في حق السكان المدنيين خرج الجولاني من أحد مساجد دمشق ليعلن أن من قام بذلك مجموعات منفلتة وستتم معاقبتها.
كيف يمكن تصديق النتائج المحصل عليها؟ وهل شمل الاستطلاع فعلا كل سوريا كما قالت المجلة؟
كيف نصدق أن أكثر من 80% من السوريين يؤيدون حكم الجولاني وأكراد سوريا يرفضون وضع السلاح بشكل نهائي إلا وفق عملية سياسية تتخلى فيها هيئة تحرير الشام عن هيمنتها، أو مقابل امتيازات تمنحها إدارة إقليم كما كانت؟
كيف نصدق هذا الرقم ودروز سوريا يرفضون حكم الجولاني بشكل مطلق؟ وكل مشايخهم صرحوا بأن هذه الجماعة الحاكمة في دمشق ليست موضع ثقتهم نهائيا ولهذا رفضوا وضع السلاح؟
كيف نصدق أن أغلبية السوريين ترى بأن الأمن اليوم أحسن من الأمس، والسلاح منفلت والجماعات الإرهابية من الأوزبك والإيغور والشيشان تتجول في مختلف المناطق السورية؟
كيف يمكن أن نصدق هذه النتائج والخوف يملأ قلوب السوريين، حيث تم اعتقال أكثر من 30 ألف ممن قاموا بتسوية الوضعية من الجنود السابقين؟
كيف يمكن أن يتفاءل السوريون بالمستقبل وقد تشريد مئات الآلاف من الموظفين؟ تم تسريح 500 ألف جندي دون أي مخطط لإدماجهم في الجيش الجديد. تم تسريح كل عناصر الأمن والشرطة بمن فيها شرطة المرور. تم تسريح أغلب الهيئة الطبية وموظفي الإدارة الترابية. تتحدث بعض التقديرات عن تسريح حوالي مليون ونصف مليون موظف، وقد يكون الرقم أكبر من ذلك.
كيف تتحدث عن التفاؤل بالمستقبل في ظل تشريد الموظفين ومعهم عائلاتهم طبعا؟
هذا من حيث الواقع الاجتماعي أما من حيث الديمقراطية والحريات فإن الأمور غير طبيعية بتاتا.
عمل الجولاني على نقل حكومة إدلب إلى دمشق، حيث عيّن 19 من وزراء إدلب أو “تورا بورا سوريا” في حكومته وزيّن مائدة الديمقراطية بخمسة شخصيات لا تمثل وزنا اجتماعيا وسياسيا.
وعيّن أسامة الرفاعي مفتيا لسوريا وهو المعروف بتكفيره لباقي الطوائف السورية. كيف يصلح مفتي تكفيري في بلد تعددي؟
أما في موضوع الحريات فقد تم إلغاء العمل بالدستور السابق وتقديم إعلان دستوري من قبل لجنة عينها الجولاني، وهي التي قدمت له مقترحا صادق عليه هو نفسه، مع الإلغاء التعددية السياسية وحل الأحزاب والاتحادات، تصور أن حكومة الجولاني تعتبر الصحفيين الذين اشتغلوا في الإعلام الرسمي من الفلول. وتم حل نقابة الصحفيين وتجميد باقي الاتحادات.
الأرقام التي قدمها الاستطلاع لا يمكن أن تجد لها مصداقا على أرض الواقع.
ليس الأمر هنا تشكيك في علمية الموضوع، ولكن هذه طبيعة استطلاعات الرأي. وهي تتضمن الجيد والسيئ والقبيح، بحسب ما ذهب إليه إي جي ديوني الابن وتوماس إي مان في مقال منشور على موقع بروكينغز.
تحدثا عن الشكوك التي تتعلق بأساليب منظمي استطلاعات الرأي. هل يطرحون الأسئلة الصحيحة؟ هل يتلاعبون بصياغة الأسئلة للحصول على الإجابات التي يريدونها؟ ومن أجروا المقابلات؟
وأكدا أن “هشاشة الرأي العام وغموضه يجعلان استخدام استطلاعات الرأي كدليل مباشر ومهيمن لصياغة السياسات العامة أمرًا إشكاليًا. فقد سعى الرئيس جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء توني بلير بوضوح إلى توجيه جماهيرهما نحو ضرورة نزع سلاح صدام حسين وإسقاطه في العراق. وقد نجح كلاهما إلى حد كبير”.
وأشارا إلى أنه “يمكن للسياسيين أن يكونوا مُراعين للقيم العامة الكامنة مع مراعاة التفضيلات العامة. استجابةً لمخاوف الجمهور، يمكنهم، كما فعل بوش بالتوجه إلى الكونغرس ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للحصول على تفويض بالتحرك ضد العراق، فتعديل العملية دون تغيير مضمون قراراتهم السياسية. كما يمكن للسياسيين وقادة جماعات المصالح تشكيل الرأي العام والتلاعب به لبناء دعم اسمي واسع لسياسات تخدم بالأساس مصالح مؤيديهم الأساسيين. وقد أدت هذه الديناميكية الطبيعية للسياسة، في عصر الحملة الدائمة، إلى زيادة كبيرة في اصطناع وخداع الكثير”.
ونذكر هنا أنه قبل حرب الخليج كان حوالي 70 في المائة من الأمريكيين ضد هذه الحرب. تحركت البروباغندا خلال أسبوع واحد فانقلبت النتيجة.
لهذا لا يمكن النظر إلى الأرقام التي قدمتها الإيكونوميست خارج هذا السياق. خارج سياق صناعة الاستطلاعات وخارج سياق “الضرب على الصحون” الذي مورس بعد تمكين هيئة تحرير الشام من السيطرة على دمشق. الضرب على الصحون مارسه الإعلام الحربي و”الجزيرة” من أهم أدوات الإعلام الحربي التي تركت كل شيء وركزت على بعض القضايا التي جعلت من النظام السابق “شيطانا” مقابل “ملاك” يحمل تباشير الحرية.