من قاموس الكراهيّة إلى هندسة التعارف: دعوة إلى حُنفاء الحضارة..

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدكتور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار

 

 

 

لا تحتاج الفتنة، حين تندلع، إلا إلى شرارة صغيرة. ذلك أن الأرض مهيأة، والجهاز المفاهيمي والثقافي الذي يُنتج الكراهية متوفر بكامل عتاده: قاموس حافل بالألفاظ القدحية، ولغة خشنة، وأساليب مبتذلة، وتراث عنيف يختزن في المخيال الجمعي ترسانة من الاتهامات الجاهزة. يكفي أن نُصغي إلى ما يتداول من تخوين للآخر، ووصمه بالعمالة، أو نعته بـ”المتصهين” أو “المطبع”، أو حتى بالحيوان، لندرك حجم الجاهزية الفورية لإشعال نار الحرب الأهلية، أو إشعال العداوة العابرة للحدود.
ومن المؤسف أن هذا القاموس لم يعد مجرد تعبيرات انفعالية عابرة، بل صار جهازًا معرفيًّا وثقافيًّا يُنتج مشاعر حقد، ويُعيد تدوير الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في شكل كراهية مزمنة. وعليه، فإن تفكيك هذا الجهاز بات ضرورة حضارية، لا خيارًا. إذ لا يمكن بناء سلام حقيقي أو هندسة للعيش المشترك، دون إعادة تركيب هذا المشترك القيمي، وقطع الصلة مع أنماط استفزاز المشاعر التي تُراكم الأحقاد.
إن ما نحتاجه ليس فقط مراجعة المصطلحات والألفاظ والمفاهيم المقيتة السائدة، بل استئصال محاضنها، أي تلك البُنى الثقافيّة والاجتماعيّة التي تُنتج العنف وتُغذِّي الصراعات. ولا يكفي هنا مجرد الدعوة إلى التسامح بوصفه قيمة أخلاقيّة، بل لا بد من هندسة جديدة للاختلاف، تقوم على:
1. احتواء وتقنين الخلافات السياسيّة والاجتماعيّة، وتصريفها بوسائل سلميّة.
2. تجديد النظرة إلى “الآخر”، لا بوصفه خصمًا وجوديًّا، بل شريكًا في صناعة المشترك الإنساني.
3. تفعيل آليات تحكيم مدنيّة تتجاوز الطوائف والإثنيّات والهويات الضيقة.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى جسم بديل، يتجاوز منطق العصبيّات القبليّة والطائفيّة، ويؤسس لمرجعية جديدة قادرة على فض النزاعات. إننا ندعو إلى تشكيل هيئة من “حُنفاء الحضارة”، لا بوصفهم طائفة دينيّة ولا حزبًا سياسيًّا، ولا مؤسسة عسكريّة أو صوفيّة، بل بوصفهم عقلاء العصر، من أصحاب البصيرة، القادرين على تقديم أجوبة حضاريّة على إشكالات الإنسان عمومًا.
إن “حُنفاء الحضارة” هؤلاء يُشكلون آلية تحكيم مدني، يستأنفون مضامين الآية الكريمة: “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”، أي لتجنب التصادم وصناعة مساحة للتعارف المنتج، لا الاكتفاء بتعايش هشّ سرعان ما يُفجَّر بأول شرارة.
علينا التحرر من العصبيّات الضيّقة وذلك من خلال رفض كل جهاز يُعيد إنتاج الهويات القاتلة:
– العصبيّة الطائفيّة.
– العصبيّة المذهبيّة.
– العصبيّة القبليّة.
– العصبيّة الإثنيّة.
والدعوة إلى الانتماء الأوسع: الإنسان الحضاري العاقل، لا الإنسان العرقي المتشنج.
العالم العربي والإفريقي صار حقلًا خصبًا للأزمات التي تتغذى على هذا القاموس العنيف وتعيد إنتاج نفسها في كل دورة زمنيّة.
كل عناصر الحرب الأهليّة حاضرة في هذا الجهاز:
التحريض العاطفي.
الشيطنة الرمزيّة.
نزع الإنسانيّة عن الخصوم.
تأجيج العصبيّات العرقيّة الطائفيّة .
ولهذا، صار لزامًا التفكير في جهاز حضاري بديل، يقوم بتفكيك هذا الجهاز السام ويُعيد هندسة وتشكيل المشهد على أساس تعارفي، لا تصادمي.
* والخلاصة:
الانتقال من قاموس الكراهية إلى هندسة التعارف، يتطلب مشروعًا ثقافيًّا جديدًا، يقطع مع لغة الشتم والتخوين، ويُعيد بناء المشترك الإنساني على أسس من الحكمة والعقلانيّة، برعاية “حُنفاء الحضارة” الذين نأمل أن يشكّلوا بديلاً حضاريًّا، في زمن كثرت فيه الأجسام الطائفيّة وقلّت فيه المرجعيّات الجامعة.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...