استراتيجيات بناء الدولة في عهد الأمير عبد القادر الجزائري (الصناعة)

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

الدكتور علي محمد محمد الصّلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

 

اهتم الأمير عبدالقادر بالبحث عن المعادن المختلفة وتخزينها، ولم يكن بحث الأمير وتخزينه للمعادن الخالصة ضرورياً فقط لصنع عملته، بل كذلك من أجل تكوين صناعة قادرة على جعله مستقلاً عن الخارج، وقد استطاع في سنة (1839م) أن يجمع ألفي قنطار من الحديد ومئتين من النحاس، وتمخضت أبحاثه عن اكتشاف منجم للكبريت قام مباشرة باستغلاله، ومنجم آخر للرصاص، وقد جعل من مدنه قواعد صناعية بإنشاء مصانع ومخازن للبارود في معسكر مليانة، والمدية، وتاكدمت، ومعامل للسلاح في مليانة بفضل استخراج الحديد الخام من جبل زكار المطل على المدينة، كما أنه أنشأ مسابك المدافع في تلمسان، ولم تكن هذه المراكز مخصصة لصنع الأسلحة فقط، كذلك كانت تصنع الملابس للعسكريين والمدنيين على حد سواء.
وكان الأمير دائم الانشغال بعدم الارتباط والتبعية للخارج، ونظراً لمحدودية إمكانياته وموارده فقد كان يعوضها بالشراء من المغرب عن طريق المكلف بأعماله في فاس، ومن وهران ومن مدينة الجزائر، فيشتري كميات كبيرة من الحديد والصلب وصفائح الفولاذ والأقمشة والجوخ المخصصة بالدرجة الأولى لتجهيز جيشه. وكانت تلك الجهود التي قام بها الأمير جبارة، وذلك بغية تعزيز البلاد بصناعة تمكنه قدر المستطاع من تجهيز بلاده حتى يتحرر من التبعية الصناعية للخارج.
يكتب الكونت “دي سيفري” في كتابه (عبد القادر ومساجين الحرب): “كانت المشاغل والمخازن والمعامل والصناعات الحربية والسلمية والحصون والأسواق والمدن كلها تنبعث وكأنها نتاج أعمال سحرية. غير أنه كان يلزمه التقنيون كذلك، وقد وجد تقنيين لصناعة النقد خاصة من الفرنسيين الذين كانوا في مجملهم من الفارين المعتنقين للإسلام. وكان حريصاً على الاستفادة من فرنسا في جانب التقنية من خلال إرسال مواطنين إليها، لكن محاولاته باءت بالفشل من جراء التردد والتحفظ التي ظهر من جانب فرنسا”. (الأمير عبد القادر الجزائري، علي الصلابي، ص142 – 143)
وكان يحرص على الاستفادة من الخبراء وأهل التخصص في ميادين الصناعة وعلم المعادن، وقد استفاد من خبير فرنسي كان مهتماً بالأبحاث المنجمية بعث به سلطان المغرب إليه ليقدم خدماته للأمير، وفعلاً بدأ التنقيب في جبل زكار واكتشف أن خام الحديد متوافر بكثرة، وقد استورد من إسبانيا عجلة مائية ومسقط مياه يستعمل كقوة دافعة؛ لاستخدامها في إنشاء مصنع ذي فرنٍ عال، ولإعطاء المشروع كامل أهميته كان الأمير يصر على معاينته بموكب من القادة السياسيين والعسكريين، وحضر الأمير كل مراحل العملية بكل اهتمام وقلق، وعندما صب قضيب الحديد قام الأمير أمام الملأ بتقبيل المهندس، وعندما برد الحديد أخذه الأمير بين يديه وتفحص كل أوجهه ثم عرضه على كل مرافقيه وأنصاره.
لقد كان الأمير يهتم بالتطور والرقي، وبالرغم من أنه كان ابن بيئة محافظة وأسرة متصوفة ومنطقة ريفية منعزلة قريباً من مدينة معسكر التي كانت مقراً لسلطة (باي الغرب)، ثم إنه قضى بعض الوقت في التعليم بوهران التي كانت قبل فتحها (1792م) مدينة ذات طابع إسباني، وكان الأمير عميق التمسك بالدين وتعاليمه، وبنصوص القرآن والسنة، متمكناً من التراث العربي والحضارة الإسلامية: يحفظ الشعر والأمثال والخطب والحكم، ويعرف حياة الفلاسفة والرياضيين والأطباء. ومع ذلك وجد نفسه بحكم ظروف بلاده على قمة هرم السلطة، فكان عليه أن يوائم بين التقليد والتجديد، وبين التراث التليد والحضارة الغربية الغازية.
وقد استجاب الأمير لضغط هذه الحضارة في عدة مجالات دون التضحية بمقدساته، فأدخل نظماً ومصانع وأجهزة لا عهد لقومه بها، وقد عرفنا ذلك عنه، وفي بعض مراسلاته مع الفرنسيين سيما مع ملك فرنسا لويس فيليب، وردت عبارات تدل على أنه كان ينتظر أن يتعاون مع الفرنسيين على إدخال المفيد من الحضارة الأوروبية على شعبه.
لقد كان الهدف الأسمى والأشمل لعبد القادر هو جعل عرب وأمازيغ الجزائر شعباً واحداً ودعوتهم للمحافظة التامة على دينهم، وبعث روح الوطنية فيهم، وإيقاظ كل قدراتهم الهامدة سواء للحرب أو للتجارة أو للزراعة أو للأخلاق والتعليم.
وكان ينشد توحيد الشعب وتوعيته وإلحاقه بركب العالم المتقدم وبناء دولة تجمع بين الإسلام وحاجات العصر (حياة الأمير عبد القادر، مقدمة أبو القاسم سعد الله، ص16).
وكل المؤرخين الفرنسيين يذكرون رسالته المؤثرة التي بعث بها إلى الملكة إميلي في هذا المضمار: “عوض أن تبعثي إليّ بجبنائك الأمجاد كي يقاتلوني، فليأتوا ليساعدوني على أن أضع في بلادي أسس حضارة تكونين قد أسهمت فيها، فتكونين قد حققت هدفين اثنين، تنزلين السكينة على قلبك النابض بالأمومة وتسعدين كلا من رعاياك ورعايانا، وعسى الله أن يحفظ لك كل ما هو عليك عزيز وغال”.
لم يكن هناك رد عملي وفعلي، فروح الغزو والسيطرة التي كانت المحرك الدائم لفرنسا، لم تكن تطيق أن ترى أمة إسلامية عصرية على وجه الأرض. (الأمير عبد القادر وبناء الأمة الجزائرية، مرجع سابق، ص106).

المراجع:
• الأمير عبد القادر محيي الدين الجزائري، علي محمد محمد الصلابي، دار الروضة – استانبول، ط1، 2017.
• الأمير عبد القادر وبناء الأمة الجزائرية، عبد القادر بو طالب.
• حياة الأمير عبد القادر، مقدمة أبو القاسم سعد الله، الدار التونسية للنشر – تونس، ط1.

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...