الأقلّ أميركيّة بين الأميركيين

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

حسن مدن
كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها.

 

 

ولد الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست، البالغ نحو 70 عاماً، في 14 سبتمبر/ أيلول 1955 في شيكاغو بالولايات المتحدة. إنّه بابا الفاتيكان الجديد، لاوون الرابع عشر، الذي عاش في جمهورية بيرو (غرب القارّة الأميركية اللاتينية) ما يقارب ربع حياته، فبعد نيله السيامة الكهنوتية في 1982، التحق بالدعوة الأوغسطينية في تلك البلاد عام 1985، وتولّى منصب مستشار الولاية الكنسية الإقليمية في مدينة شولوكاناس بين عامي 1985 و1986، ورغم أنّه عاد إلى مسقط رأسه، شيكاغو، ليقضي هناك عامين (1987 – 1988)، شغل خلالهما منصب منسّق الدعوات الكهنوتية ومدير البعثات في الرهبانية الأوغسطينية لإقليم شيكاغو، لكنّه عاد إلى بيرو ليمكث فيها حتى 1999، وانقطعت إقامته ثانية، ولكن مؤقتاً أيضاً، بعودته إلى شيكاغو وانتخابه رئيساً إقليمياً لمقاطعة “سيدة المشورة الصالحة” التابعة للأبرشية.

لم تنقطع علاقة بريفوست بالقارّة اللاتينية بتلك العودة إلى شيكاغو إذن، ففي 2014 أعاده إلى بيرو نفسها البابا فرنسيس الراحل، معيّناً إياه مديراً رسولياً لأبرشية تشيكلايو، وجرت ترقيته إلى درجة أسقف لتلك الأبرشية في 2015، وبين 2018 و2023، تولّى منصب نائب رئيس وعضو في المجلس الدائم لمؤتمر الأساقفة فيها. وتضمّ البيرو التي أمضى البابا الجديد فيها قرابة عقدين من عمره، ويحمل، إضافة إلى جنسيته الأصل، جنسيتها أيضاً، أكثر من 30 مليون نسمة، هم خليط متعدد الأعراق، بينهم سكّانها الأًصليون، وأوروبيون وأفارقة وآسيويون. وينقل أحد التقارير أنّ بريفوست أظهر فترة توليه مهامه في تلك البلاد “التزاماً عميقاً بخدمة المجتمعات المهمّشة، ما جعله شخصية محبوبة بين الناس”. وفي خطابه الأول بابا، وجّه تحيّة خاصة بالإسبانية إلى شعب البلد الذي خدم فيه، معتزّاً بالجذور العميقة التي تربطه به.

الغاية هنا من البدء في تسليط الضوء على هذا الجانب من سيرة البابا الجديد، إظهار ما يمكن أن يعدّ وجه تشابه بينه وبين سلفه البابا فرانسيس ابن أميركا اللاتينية، المولود في الأرجنتين عام 1936، والذي تأثر، في بداية تكوينه الديني والكنسي، بما عرفت بمدرسة “لاهوت التحرير” في القارّة، التي عُرف مريدوها بقربهم من هموم الناس ودفاعهم عن حقوق الفقراء، وهو ما انعكس في سلوك البابا الراحل ونهجه، وربما اقترب البابا الجديد من هذا التوجه في كلمته في أوّل قدّاس له بصفته رئيساً للكنيسة الكاثوليكية، حين أبدى أسفه لتراجع الإيمان لحساب “يقينيات أخرى، مثل التكنولوجيا والمال والنجاح والسلطة واللذّة”، ومن الإشارات إلى قربه من نهج سلفه ما أوردته التقارير أنّ 80% من الكرادلة الذين شاركوا في المجمع الانتخابي عيّنهم البابا الراحل، لذا لم يكن مفاجئاً انتخاب شخصٍ مثل بريفوست لتولي موقع “الحبر الأعظم”.

ومن الإشارات أيضاً على قربه من نهج البابا فرانسيس وتبنّيه وجهات نظره بشأن قضايا المهاجرين والفقراء والبيئة، انتقاده بصفته كاردينالاً، آراء نائب الرئيس الأميركي، جيه دي فانس، وإعادته نشر منشور على مواقع التواصل الاجتماعي ينتقد فيه ترحيل إدارة الرئيس دونالد ترامب، بعض المهاجرين. وفي مقابلة له مع الموقع الإخباري لإذاعة الفاتيكان في العام الماضي قال: “ينبغي ألا يكون الأسقف مثل أمير صغير متربّع في مملكته، بل عليه أن يكون قريباً من الشعب ويخدمه، ويسير معه ويقاسي معه”.

مع ذلك، يجنح البابا الجديد إلى الاعتدال، ويوصَف بقدرته على التوفيق بين آراء متباينة، ما يجعل من اختياره لهذا الموقع عاملاً مطمئناً للكرادلة المحافظين الذين ينادون بتركيز أكبر على المبادئ اللاهوتية. وإليه ينسب القول “إنّ عالم اليوم الذي تعيش فيه الكنيسة لم يعد ما كان عليه قبل 10 أو 20 عاماً (…) الرسالة لا تزال عينها… لكن السبيل لبلوغ الناس اليوم، من شباب وفقراء وسياسيين، مختلف”.

لا يزال مبكراً الجزم إذا كانت الفترة المقبلة من ولاية البابا الجديد، لاوون الرابع عشر، ستكون امتداداً لسلفه الذي حظيَ بشعبية واسعة في العالم، أو أنّه سيشقّ لنفسه مساراً مختلفاً. لكن يلفتنا وصف بليغ عنه بعد انتخابه على رأس الفاتيكان نقله موقع دي. دبليو عن صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية أنه، وبفضل اعتداله وانفتاحه الثقافي، يعدّ “الرجل الأقلّ أميركيّة بين الأميركيين”.


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...