النظام الجزائري بين أزمة الشرعية ومتاهة الإسقاطات الخارجية: قراءة في اختلالات الجوار الإقليمي
عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في ايطاليا
– حين يصبح الجوار الجغرافي حقلاً لإسقاطات الأزمة
نحن مغاربة العالم، حينما نرصد سلوك النظام الجزائري تجاه المغرب، لا نُخفي ألمًا يعتصرنا ووجعًا يتجدد؛ إذ نُصاب بدهشة لا تخلو من اشمئزاز أمام هذا الإصرار العدواني الذي يتجاوز الخلافات العابرة ليأخذ طابعًا بنيويًا، يشي بنزعة مرضيّة تتغذى من داخل منظومة سياسية مأزومة في شرعيتها، ومعزولة عن سياقات التحول الإقليمي والدولي.
فما نتابعه اليوم من تدخل سافر في الشأن المغربي، لا يمكن عزله عن منطق أعمق، حيث تُصدَّر الأزمة الداخليّة الجزائريّة إلى الخارج، في محاولة مكشوفة لإعادة تعريف الذات السياسيّة عبر “الآخر المغربي”، لا على قاعدة الندية الإيجابية، بل من خلال شيطنة ممنهجة تقلب منطق الحوار إلى منطق عداء مُمأسس.
إن النظام الجزائري، الذي يعيش انسدادًا بنيويًا في تمثيليته وارتباكًا في أدواره، لم يعد يتردد في اختلاق أدوار وصائية في قضايا تتجاوز قدراته الأخلاقية والقانونية، متوسلاً خطابًا متقادمًا لا يزال يردد مقولات الحرب الباردة، في زمن باتت فيه الشعوب تطالب بالكفاءة، لا بالشعارات. وهنا، تبرز إشكالية جوهرية: إلى أي مدى يمكن لمنظومة حكمٍ تُتهم داخليًا بقمع الحريات واحتكار المجال العمومي أن ترفع لواء “حق تقرير المصير” لشعب لا يتجاوز تمثيله الميداني دائرة ضيقة من الانفصاليين المدعومين؟
ولعل المفارقة الفجّة تكمن في ازدواجية هذا الخطاب: فبينما يزايد على المغرب في قضية فلسطين، يغض الطرف عن تطبيع معلن مع إسرائيل من قِبَل دول تربطه بها تحالف صامت، بل يُهادنها دون مساءلة. كما ينخرط جزء من إعلامه وأجهزته في حملة دعائية ممنهجة تُسقِط على المغرب كل فشل داخلي، وتُشيطن كل مبادرة سياديّة أو تنمويّة مغربيّة، دون أدنى مساءلة للعلل الداخليّة التي تنخر بنيته: من الفقر إلى الهشاشة الاقتصادية، ومن الإقصاء إلى غياب أفق استراتيجي للدولة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مساءلة جذرية لا تكتفي بإدانة الخطاب الرسمي الجزائري، بل تسعى إلى تفكيك آليات إنتاجه، وكشف بنيته الرمزية التي تُعيد تدوير الأزمة وتُعطّل ولادة مشروع مغاربي متكامل. إنها دعوة موجّهة للنخب المغاربية والعربية إلى كسر جدار الصمت، ومغادرة موقع التلقي السلبي، والانخراط في تفكير نقدي جماعي يتجاوز سطح الصراع، نحو مساءلة أصلية لمصدر الداء: نظامٌ يستمر في تصدير أزماته، عبر عداء مصطنع يُراد له أن يتحوّل إلى قدرٍ جغرافيّ لا مفر منه.
– أزمة الشرعية وتضخم الوظيفة الخارجية: حين يفقد النظام بوصلته الداخلية
من غير الممكن فهم سلوك النظام الجزائري دون العودة إلى منطق الأزمة الداخلية التي تنخر بنيته منذ عقود، والتي اتخذت طابعًا مزمنًا منذ انهيار الشرعية الثورية وضمور التمثيلية الشعبية الفعلية. فالدولة التي تعاني اختلالًا في وظائفها الحيوية، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، سرعان ما تفقد مناعتها الرمزية وتتحول إلى كيان يعاني من “انفلات في الهوية” و”تشوش في الدور”. وفي هذا السياق، يصبح الخارج امتدادًا للداخل المختل، لا ساحة للتفاعل التشاركي، بل فضاءً لتصدير القلق البنيوي وإسقاط الفشل في صورة مواقف سياسية راديكالية.
بهذا المعنى، لا يمكن أن يُقرأ السلوك الخارجي للنظام الجزائري كمجرد تعبير عن خيارات دبلوماسية أو رهانات جيوسياسية معقولة، وإنما كاستمرار لبنية ذهنية سلطوية ترى في “العداء الجار” وسيلة لإعادة إنتاج الشرعية في الداخل، عبر بناء عدوّ خارجي دائم يتم استدعاؤه كلما تصاعد منسوب الغضب الشعبي أو اهتزت ركائز التحكم الأمني.
إن قضية الصحراء المغربية، التي يُصرّ النظام الجزائري على اختزالها في شعار “تقرير المصير”، ليست سوى مرآة لهذا التناقض. فباسم هذا الشعار، المنحدر من خطابات القرن الماضي، يُخوّل النظام لنفسه الوصاية على مجموعة انفصالية لا تملك شرعية ديمقراطية، ولا تعكس أي تمثيل واقعي للشعب الصحراوي بمفهومه المجتمعي الواسع. ومع ذلك، يستمر في تبنيها كقضية محورية، لا حبًا في حقوق الإنسان، بل لأنها توفر له غطاءً دعائيًا لإخفاء قمعه الداخلي وتبرير انغلاقه المؤسسي.
– العداء للمغرب: بين استراتيجيات التأبيد وإرادة إعادة التموقع
ليست الأزمة بين النظام الجزائري والمملكة المغربية مجرد خلاف سياسي عابر أو نزاع حدودي تقليدي، بل هي انعكاس لتموضع أعمق، يحيل إلى منطق عدائي بنيوي، اتخذ طابعًا استراتيجيا في خطاب وسلوك المؤسسة الحاكمة الجزائرية.
فالمغرب، بالنسبة للنظام الجزائري، لم يكن فقط خصمًا جيوسياسيًا، بل أصبح “وسيلة لتبرير الذات” و”موضوعًا وظيفيًا” تستند إليه الدولة العميقة في الجزائر لإعادة ترتيب علاقتها مع الداخل والخارج معًا.
وقد تجلى هذا السلوك في صور متعددة: دعم مباشر لأنشطة انفصالية، تسليح جماعات مناوئة للمغرب، التواطؤ مع اختراقات أمنية خطيرة في أقاليم جنوبية مغربية، والتوظيف الإعلامي الممنهج لصناعة صورة نمطية تُشيطن المغرب وتحجب نجاحاته التنموية والدبلوماسية. كل ذلك في سياق استراتيجي محكوم بهاجس إضعاف الخصم لا التفاعل معه، وعقلية هيمنة إقليمية تفتقر للأسس الموضوعية والمشروعية التمثيلية.
إن ما يُميز هذا العداء هو طابعه البنيوي؛ إذ لم يعد مرتبطًا بأشخاص أو سياقات، بل بات مكوّنًا من مكونات هوية الدولة العميقة الجزائرية، يُدرَّس ويُكرّس ويُوظف كأداة تحكم داخلي وخارجي في آن. وبهذا المعنى، يغدو من العبث الحديث عن مصالحة دون تفكيك هذه البنية، التي ترى في المغرب تهديدًا وجوديًا لا شريكًا استراتيجيًا.
– الإعلام الرسمي الجزائري: من آلة دعاية إلى جهاز تبرير للعداء
تتجلى إحدى أكثر مظاهر الأزمة السياسية الجزائرية في البنية الخطابية للإعلام الرسمي، الذي تحوّل من أداة تواصل وتنوير إلى جهاز تبرير وتأثيث دعائي لخطاب العداء. فبدلًا من الاشتغال على مساءلة الواقع الداخلي، ينخرط هذا الإعلام في حملات تشويه منظمة تستهدف المغرب، موظفًا كل أدوات الإيهام والتضليل والانتقائية.
يتمحور هذا الخطاب حول مقولات جاهزة تُبثّ عبر مختلف القنوات والمنصات، وتُعيد إنتاج صورة نمطية للمغرب كمصدر تهديد وأصل لكل أزمة. في حين تُمنع أصوات الداخل من نقد النظام أو مناقشة أولوياته، تُفتح أبواب السب والتجريح أمام أي تحرك مغربي، بغض النظر عن مضمونه أو سياقه.
هذه الآلة الإعلامية تُغذي منطق العداء وتُكرّس القطيعة، وتُفرغ الحوار من محتواه، وتحرم شعوب المنطقة من فرصة الانفتاح على سرديات بديلة قد تقود إلى بناء الثقة والبحث عن الحلول المشتركة.
– فلسطين كواجهة خطابية: ازدواجية المعايير وأخلاقيات النفاق السياسي
يشكّل توظيف القضية الفلسطينية في الخطاب السياسي الجزائري أحد أبرز تمظهرات الازدواجية الأخلاقية والانتهازية الرمزية.
إذ في الوقت الذي تُقدَّم فيه الجزائر كـ”حاضنة للمقاومة”، لا يُسجَّل لها أي موقف حازم تجاه الدول التي تربطها بها علاقات استراتيجية رغم انخراطها في مسارات تطبيع علنية مع إسرائيل. ويغيب عن خطابها العملي أي التزام فعلي يتجاوز الشعارات، في ظل انكفاء داخلي واضح عن دعم المبادرات الفلسطينية ميدانيًا أو دبلوماسيًا.
بل الأدهى أن هذا الخطاب لا يُستخدم إلا كورقة ابتزاز رمزية ضد المغرب، إذ يُعاد توظيفه كلما اتخذ المغرب قرارًا سياديًا في علاقاته الخارجية، ليُقدَّم على أنه “خيانة للقضية”، في حين يُعامل الآخرون بمعايير مغايرة، ما يكشف عن هشاشة “الغيرة المعلنة” ويُحوّل النضال من أجل فلسطين إلى أداة دعاية سلطوية.
– خاتمة: نحو مساءلة بنيوية لأخلاقيات الجوار وأفق المصالحة المغاربية
ما تقدم من تحليل لا يُفضي بنا إلى مجرد الإدانة الظرفية أو رد الفعل الانفعالي تجاه سلوك النظام الجزائري، بل يُحيل إلى ضرورة مساءلة جذرية لبنية سياسية تتغذى من إنتاج التوتر، وتتوسّل خطاب العداء كآلية لإخفاء أعطابها الداخلية وإعادة تدوير أزمتها الشرعية في الخارج.
لقد أثبتت التجربة أن سياسة اليد الممدودة التي عبر عنها المغرب مرارًا، لا تواجه خصمًا استراتيجيًا بقدر ما تصطدم بجدار أيديولوجي صلب تُشيّده منظومة سلطوية تتغذى من استمرار القطيعة.
وفي ظل هذا الواقع، تبرز ضرورة انخراط النخب المغاربية والعربية في تفكيك البنى الخطابية والإيديولوجية التي تعوق المصالحة، وتُعيد إنتاج النزاع، وتُجهض أي مشروع تكاملي مغاربي.
فإلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا السلوك العدائي دون كلفة إقليمية باهظة؟
وهل يحق لنظام يُعاني من أزمة شرعية داخلية أن يُنصّب نفسه وصيًا على قضايا الشعوب؟
وهل آن الأوان لنقل الصراع من مستواه السياسي العقيم إلى مستواه الثقافي والمعرفي، حيث تُطرح الأسئلة لا بوصفها أدوات مساءلة فحسب، بل كبوابة لبناء رؤية جديدة للمنطقة، تتأسس على السيادة المتبادلة والتكامل الأخلاقي والاحترام العميق لحق الجوار؟