جرح نرجسي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

سمر يزبك
كاتبة وروائية وإعلامية سورية

 

 

هل من أثر يبقى عندما ينهار كل شيء آخر؟

عندما عاد الدم السوري ليصبغ أطراف المرايا المتقابلة، في اللحظة التي صار على العتبة، مارس/ آذار الفائت، ونجت عائلتي بمعجزة من مجزرة الساحل، وجدت الفراغ يحيطني، صمتاً كثيفاً لا يردّ شيئاً، بدا الطريق الذي اجتزته مع رفاق الأمس ظلاً باهتاً لصدىً بعيد، كأن ما حسبته يوماً درباً مشتركاً لم يكن إلا عبوراً متوازياً. لحظة خذلان لم تكن تجربة شخصية فحسب، بقدر ما أثارت سؤالاً فلسفيّاً أبدياً عن طبيعة الشر: هل هو قوة تبتلعنا، أم مادّة تتحوّل في داخلنا إلى شيءٍ آخر؟ أهو معدنٌ قاسٍ، لا يزول بل يُعيد تشكيل الإرادة؟ يجعلها أقوى كلما جُرحت. أم أنه لا يقوم بذاته، مجرّد وجهٍ ناقصٍ للخير، صورة غير مكتملة في دورة الوجود. بين هذين المنظورين ضبابٌ أحاول فيه أن أفهم ما جرى: أن أرى في الخذلان ليس انهياراً، بل إعادة صهر للألم، كي يتحوّل إلى طاقة أخرى. لكن السؤال الأوسع: ماذا نصنع حين يصبح الشر جزءاً من الحياة اليومية في مدننا؟ حين يتسرّب من الجدران المتفحّمة في قرانا اليوم، ومن ركام البيوت المسحوقة تحت البراميل في الأمس؟ في نظرات أمّهات المفقودين في الأمس والمفقودات اليوم؟ لم يعُد الشرّ حدثاً استثنائيّاً في بلادنا، بل صار البنية الخفية التي تعجن الأرواح وتفتّت العائلات والمجتمعات، كما تُفتت الحجارة القديمة. في مواجهة ذلك، لا يكفي أن نصف الخراب أو نرثيه. علينا أن نفهمه مادّة خاماً تفرض علينا إعادة تشكيل أنفسنا. فإما أن نُسحق تحت ثقله، أو نعيد صهر ما تبقى فينا لنصير أقوى. عندها فقط يصبح الألم وقوداً للبقاء، والخذلان ندبةً تكشف لنا وتذكّرنا، كلما تحسّسناها وأوجعتنا، أننا ما زلنا نقاوم.

لم يرَ الفلاسفة في الشر لعنة تُنفى من الوجود، بل مادّة أولية تدخل في صهر الإنسان. الألم هنا ليس عارضاً يمرّ، بل شرطٌ للولادة الثانية. الجرحُ لا يوقف المسير، إنما يخلق إرادة أصلب. كأن الشر يتحوّل إلى مطرقة تُشكّلنا من جديد. حين أستعيد تلك السنوات التي انتهت إلى خذلان، أجد مفتاحاً: التجربة لا تمحو المعنى، بل تدفع إلى إعادة صياغته، وإلى بناء ذاتٍ لم تعد تنتظر ردّ الجميل، بل تعي أن الشر يمكن أن يُستثمر كوقود للاستمرار. يخبرني ابن عربي بأن الشر لا يقوم بذاته؛ هو ظلّ في لوحة أكبر لم تنكشف تفاصيلها بعد. ما نراه قسوةً قد يكون على مستوى آخر صورةً لرحمة لم ندركها. الخذلان الذي اختبرته ليس خارج دائرة الخير، بل جزءٌ من حركته الخفية. الشر نسبي، والكل في عين المطلق خير.

لم يتوقّف ما حدث عند حدود البيت. والخذلان اليوم تجاوز أن يكون فرديّاً، بقدر ما أصبح صورة مكرّرةً لما يعيشه مجتمع كامل على شفا الانهيار. الشر الذي يحيط بنا ـ في السياسة، في المجتمع، في تفاصيل المعيشة اليومية ـ لا يمكن محوه، لكنه يمكن أن يُفكَّر فيه كطاقة خام، يُعاد تدويرُها في اتجاه آخر. حين ننجح في تحويل المعاناة إلى وعي جديد، نصنع منفعة عامة، ونفتح ثغرة في جدار اليأس. تجربتي ليست استثناءً، بل مرآة لتجارب كثيرة، وكل محاولة لصياغة معنى من الألم تفتح إمكانية أكبر على احتمال الخراب. لا أبحث عن تبريرٍ لما جرى، ولا عن عزاء سهل. تعلّمت كيف يُعاد تدوير الشر في داخلي حتى لا يتحوّل إلى سُمّ يتوارى خلف الصمت. لكنه الخذلان هذه المرّة! خبرة تُضاف إلى ذاكرة مثقلة بالخسارات. والخلاصة أن الخذلان ليس نهاية، بل تجربة تفتح على وعي جديد: كل ألم يُعاد صهرُه يصير مادة أولية لإرادة أصلب، وكل جرحٍ يُستوعب يتحوّل إلى طاقةٍ جماعيةٍ تدفعنا خطوة أخرى في مقاومة الخراب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...