اسبانيا في وجه تل أبيب: حين يُحرج صوت العدالة رصاص الاحتلال
عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في ايطاليا
في زمنٍ تتوارى فيه العدالة خلف بيانات “القلق” و”الدعوات لضبط النفس”، تنهض إسبانيا بموقف لا لبس فيه، يضعها في موقع متقدم أخلاقيًا وسياسيًا بين العواصم الأوروبية. مدريد لم تكتفِ بالإدانة الخطابية، بل تحركت بخطوات سياسية ودبلوماسية فعلية في وجه العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، والذي تجاوز كل حدود القانون الدولي والإنساني.
أحدث فصول هذا التحرك جاء باستدعاء القائم بالأعمال الإسرائيلي في مدريد، بعد تصريحات وصفها وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس بأنها “كاذبة ومسيئة”، صدرت من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فالأخير، وكعادته، يحاول قلب المعادلة، متهماً الحكومة الإسبانية بـ”التحريض على الإبادة الجماعية” لمجرد أن رئيس وزرائها بيدرو سانشيز سمّى المجازر باسمها الحقيقي.
لقد قالها سانشيز بوضوح: “ما يجري في غزة هو إبادة جماعية”، مضيفًا أن بلاده لا تملك قنابل نووية أو حاملات طائرات، لكنها تملك الموقف الأخلاقي والسياسي في وجه عدوان غاشم وصمت دولي مريب.
لم يكن التصريح الإسباني مجرد انفعال عابر، بل تبعه تحرك عملي غير مسبوق: حظر دخول وزيرين متطرفين من حكومة الاحتلال إلى الأراضي الإسبانية، وهما إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، في خطوة غير مألوفة من دولة أوروبية. كما أعلنت الحكومة عن منع مرور الأسلحة عبر الأجواء الإسبانية، ومنع رسو السفن التي تنقل وقودًا للجيش الإسرائيلي في موانئها.
وفي المقابل، صبّت إسرائيل غضبها على مدريد، واتهمتها بشن “حملة معادية للسامية” – وهي التهمة الجاهزة التي تلوّح بها تل أبيب ضد كل من يجرؤ على انتقادها. لكنها لم تفلح هذه المرة في ليّ ذراع حكومة اشتراكية اختارت الوقوف مع الضحايا لا مع الجلاد.
في المشهد الأوروبي الرمادي، تقف إسبانيا كموقف نادر. أوروبا، التي طالما تباهت بقيم الحرية وحقوق الإنسان، بدت عاجزة أو متواطئة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة. بيانات التنديد المتكررة لم تمنع تسليح إسرائيل، ولا منعت الشركات الأوروبية من مواصلة التربح من آلة الحرب.
لكن مدريد أرسلت رسالة واضحة: ليس من الضروري امتلاك السلاح حتى يكون لك موقف قوي.
ولعل هذا ما يجعل التحرك الإسباني محوريًا؛ فهو ليس فقط كسرًا لحاجز الصمت الأوروبي، بل نموذجًا يمكن أن تحتذي به دول أخرى إن امتلكت الإرادة السياسية والشجاعة الأخلاقية.
منذ اعتراف إسبانيا بدولة فلسطين في مايو/أيار 2024، والخطوات السياسية المتسارعة ضد الاحتلال، يبدو أن مدريد تُعيد صياغة أولوياتها الخارجية من منطلقات مبدئية. هذا التحول لا يُرضي واشنطن، ولا بعض شركاء الاتحاد الأوروبي، لكنه يجد صداه داخل إسبانيا نفسها، حيث تعبّر شريحة واسعة من المجتمع عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني، وتطالب بمواقف حقيقية لا لفظية.
إن حكومة سانشيز، وإن كانت تدفع ثمنًا سياسيًا لتوجهها، فإنها تكسب رصيدًا أخلاقيًا يندر وجوده في عالم تحكمه لغة المصالح الفجّة.
من يقف اليوم مع غزة لا يتحدى إسرائيل فقط، بل يُحرج الغرب كله أمام نفسه. والموقف الإسباني، رغم كل شيء، هو تذكير بسيط بأن العالم لم يُسلّم بالكامل بعد… وبأن العدالة لا تزال تملك فرصة – ولو ضئيلة – لتُسمَع وسط ضجيج القنابل.
وإن كانت إسبانيا وحدها الآن، فليكن هذا الموقف بداية، لا نهاية.