د. جمال الهاشمي
تتعامل واشنطن مع الوحدة اليمنية منذ تأييدها للوحدة على الانفصال في حرب صيف 1994 كأداة استقرار وظيفي مرتبط بالأمن الإقليمي وممرات الطاقة والملاحة الدولية، وليس على أساس السيادة والاستقلال مما يجعل اليمن بأدواتها ومكوناتها خاضعة للنفوذ الدولي بطرق مباشرة وغير مباشرة وهذا ما يفسر وجودها في أهم موقع جغرافي دون تكامل حقيقي مع معه سواء القرن الأفريقي ودول الخليج العربي.
ولهذا تؤدي الوحدة اليمنية وظيفة مهمة للأمن والمصالح الأمريكية في المنطقة لعدة أسباب منها:
– أن دعم الانفصال سيؤدي إلى تقسيم اليمن دوليا بين روسيا وأمريكا والصين.
– أن الإقرار بالفيدراليات وفقا لنموذج عبد ربه سيحقق التوازن لا سيما وأن هذه المكونات باستثناء الحوثي تخضع لدول الخليج التي تتنافس مع بعضها في اليمن مما يجعل هذه التوازن المحلي ضعيفا في إطار مجاميع عسكرية تتلقى دعما إقليميا ودوليا مقابل تنفيذ أهداف مرسومة لها سلفا.
– أن هذه الفيدراليات يمكن إداراتها بسهولة لأنها من الأدوات الشرعية التي يمكن ان تضعف المؤسسات المركزية ووحدة القرار مما يجعل إدارة اليمن مع وجودها أكثر صعوبة كما أنه سيسهل عليها بناء علاقات مستقلة خارج اطار الدولة المركزية.
– أن هذا النموذج الفيدرالي سيوسع الفجوة بين الفيدراليات وسيؤدي الى تعطيل قدراتها في مجالات التنمية المتنوعة وسيخلق بينهما منافسات ثقافية وايدلوجية.
– أن دعم الفيدرالية سيمنع الانفصال ويعيق تشكيل دوليتين قد يعيد النموذج التنافسي بين روسيا والعالم الغربي وهو ما سيمنح روسيا هدية في حال تحقيق ذلك لا سيما وأن الجنوب يميل في علاقاته نحو الشرق على الغرب.
– أن اليمن الشمالي سابقا يميل بطبيعته نحو تبعية السعودية التي تتبع النموذج الرأسمالي باستثناء الحوثي الذي يرتبط بإيران والتي بدورها تميل في علاقاتها نحو روسيا والصين.
إذا ، الولايات المتحدة ليست معنية بوحدة اليمن كمفهوم قومي وطني وليست معنية بالانفصال الجنوبي، كما أنها ليست معنية بتحقيق الأمن الإقليمي لدول الجزيرة العربية، وإنما يعنيها وحدة الجغرافيا السياسية لليمن كدولة قابلة للإدارة بحيث لا تتحول إلى ساحة نفوذ مفتوحة لإيران أو القاعدة.
ومن هذا المنطلق فإن الموقف الأمريكي من الوحدة والانفصال يتسم بالبراغماتية وما يهمها هو الشكل السياسي الذي يحقق استقرارا طويل الأمد ويمنع تمدد القوى المعادية لمصالحها.
ولهذا تكرر وزارة الخارجية الأمريكية في الخطاب الرسمي التأكيد على دعم وحدة اليمن وسيادته مع إنها في الواقع تتعامل مع الملف من منظور إدارة التوازنات أكثر من حماية الوحدة الوطنية، وقد أظهرت السياسة الأمريكية بعد 2015 أن الوحدة ليست أولوية مطلقة ولهذا يمكن القبول بتجميدها أو إعادة هيكلتها إذا كان ذلك يفضي إلى استقرار نسبي أو إلى توازن سياسي يمنع الانهيار الكامل للدولة؛ بمعنى آخر فإن الوحدة بالنسبة لواشنطن ليست هدفا نهائيا بقدر ما هي أداة مرحلية يمكن الحفاظ عليها أو إعادة تشكيلها وفق مقتضيات الأمن الإقليمي.
ومن جهة أخرى فأن واشنطن لا تعلن دعمها لأي مشروع انفصالي في الجنوب مع كونها تتعامل بمرونة محسوبة مع القوى الجنوبية وخصوصا المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا وتمنح فرصة التعبير عن أهدافه، ولكنه مع هذا لا يتملك مشروعا محددا، فهوي في أحد شقيه مع الشرعية وفي الشق الثاني مع الانفصال، وهو ما السعودية ومع الإمارات وفي جانب آخر مع روسيا مرة والولايات المتحدة أخرى، وقد كان مع ايران في مواجهة الرئيس صالح، وهذا التقلب في تحولاته جعله في منطقة اللايقين، وهو أبرز نموذج للمكونات اليمنية التي تمارس نفس الأسلوب والدور والطريقة، وهذه المكونات في نظر الولايات المتحدة تتسم بالبراجماتية وهي بالأساس عبء على الدول الداعمة لها، وما دامت كذلك فإن دول الولايات المتحدة متمركز على مصالحها القومية.
ومن هذا المنطلق تدرك الولايات المتحدة أن النزعة الانفصالية في الجنوب واقع سياسي واجتماعي لا يمكن تجاهله ومن المنطق الاستراتيجي توظيفه ضمن مشروع تعدد المكونات وليس ضمن مشروع تفكك الدولة.
وأن الانفصال الكامل من وجهة نظرها سيخلق فراغا استراتيجيا خطيرا في خليج عدن والبحر العربي وقد يمهد ذلك لوجود الصين أو روسيا أو حتى إيران لتوسيع نفوذها البحري.. لكنها في الوقت ذاته ترى في اللامركزية الموسعة أو الفيدرالية مخرجا عمليا لتخفيف الضغوط الداخلية وضمان مصالحها الأمنية دون خسارة التواصل الجغرافي للدولة اليمنية.
ومن ثمة فإن الرؤية الأمريكية تتوافق في جوهرها مع مشروع الأقاليم الستة الذي طرح في مؤتمر الحوار الوطني 2013–2014 إذ ترى فيه تسوية وسطية بين الوحدة والانفصال.
فالنظام الفيدرالي سيتيح تحقيق ما يلي:
1- توزيع السلطة والموارد بما يقلل من احتمالات عودة الصراع المركزي.
2- احتواء القوى المحلية ضمن أطر مؤسسية بدلا من المواجهة المسلحة.
3- ضمان وجود سلطة مركزية ضعيفة بما يكفي لتفادي الاستبداد و لكنها ايضا قوية بما يكفي لضبط الأمن والتعاون الدولي في مكافحة الإرهاب.
إن النموذج الفيدرالي اليمني في الرؤية الأمريكية هو نموذج استقرار يمكن تدويره من خلال خلق دولة متعددة الأقاليم ذات سيادة محدودة تشرف عليها قوى إقليمية متوازنة السعودية شمالا والإمارات جنوبا تحت مظلة تفاهمات أمريكية غير معلنة.
ومن خلال هذه المقاربة يمكن تلخيص الرؤية الأمريكية للوحدة والانفصال والأقاليم على النحو التالي:
1- الوحدة مقبولة ما دامت لا تهدد الأمن الإقليمي أو تسمح بسيطرة محور مناهض إيراني أو إسلامي أو دولي.
2- الانفصال مرفوض في الخطاب لكنه مقبول عمليا إذا فرض كأمر واقع بشرط ألا يغيّر موازين القوى البحرية والأمنية.
3- الأقاليم والفيدرالية هي النموذج المفضل لواشنطن لأنه يحقق مبدأ التوازن دون الصدام ويتيح إدارة اليمن عبر شبكات محلية لا سلطة مركزية قوية.
وبهذا الرؤية تسعى الولايات المتحدة إلى تحويل اليمن من دولة مركزية مأزومة إلى كيان سياسي مرن تتوزع فيه السلطة بين المكونات وتبقى فيه واشنطن قادرة على ضبط الإيقاع العام دون تدخل مباشر.
إنها رؤية واقعية براجماتية تنطلق من حسابات القوة والموقع وليس من حساب المبادئ وتضع اليمن في إطار وظيفة جيوسياسية داخل منظومة الأمن الأمريكي الخليجي.
ولأن الأقاليم هو نموذج لهيمنة المكونات العسكرية اليمنية ضمن سياق متناقض مركزيا ونفسيا وتنمويا وحتى ثقافيا فإن رؤية الولايات المتحدة للمكونات يتوافق مع استراتيجية الفدرلة التي تزعمها الرئيس عبده ربه والشرعية التي تعاني من ضعف وغياب التنمية والرؤية والقدرة والتخطيط الاستراتيجي.
وتتعامل واشنطن مع الحوثيين كقوة إقليمية فعلية مرتبطة بطهران لكنها ليست نسخة مطابقة لوكلاء إيرانيين ولذلك لأنها تتبع استراتيجية ثنائية في التعاطي معهم من خلال ردع عسكري محدود ضد القدرات التي تهدد الملاحة الإقليمية، ومقاربة سياسية تبقي الباب مفتوحا للتسوية مقابل تنازلات أمنية.
ومن هنا توظف واشنطن أدواتها عبر ضربات محدودة لاستهداف قدراتهم المهدد للملاحة وكذلك التهديدات الصاروخية ودعم استخباراتي للحلفاء في مقابل فتح قنوات دبلوماسية عبر وسطاء مثل عمان والأمم المتحدة لبحث وقف هدنة أو اتفاقات تبادلية.
وواشنطن لا تريد هزيمة الحوثي لأن ذلك سيؤدي إلى فراغ فوضوي وإنما تريد تحجيما قابلا للتفاوض يوقف هجماتهم على البحر ويجعلهم طرفا يمكن استيعابه في تسوية لاحقة في إطار تأسيس دولة تتبع الولايات المتحدة ولا تتكامل مع دول الخليج لأن تكاملها سيؤدي الى خروج الى استقلالية القرار العربي وتكامله.
كما أنها تستخدم المجلس الانتقالي الجنوبي والقوى الانفصالية كأداة ضغط إقليمية مع مخاطر سياسية حيث ترى المجلس الانتقالي قوة ميدانية فعالة مدعومة إماراتيا و مفيدة في ضبط السواحل والموانئ لكنها تشكك في مشروعه الانفصالي كخيار دائم لأنه قد يخلق فراغا استراتيجيا مما يدفعها على تبني تفاهمات ميدانية وتنسيق أمني محدود مع قوى الجنوب دون أي اعتراف رسمي بالانفصال كما أنها تمارس ضغوط دبلوماسية على الإمارات لمنع تحويل النفوذ الميداني إلى سيادة قانونية معترف بها إقليميا، ومن جهة أخرى فهي تدرك أن دعم المشروع الانفصالي سيؤدي مستقبلا إلى ارتباط الجنوب بروسيا المنافس الرئيس للولايات المتحدة بالقوة الصلبة لا سيما وأن الثقافة الشيوعية والاشتراكية هي السائدة في الجنوب منذ إعلان الانفصال بقيادة القائد الاشتراكي علي سالم البيض، وأن هذه التأييد يعني المخاطرة الجيوسياسية.
ومن جهة أخرى تتخذ من الحكومة الشرعية والمؤسسات الرسمية غطاء دبلوماسي لطلعاتها العسكرية واستخباراتها ولم تعد الشرعية بالنسبة لها سوى إطار قانوني تفاوضي ومظلة شرعية ضرورية للحلول الدولية ومن جانب آخر لا تراهن عمليا على قدرتها في الحكم أو إجراء إعادة بناء مؤسسي.
ومن ثم تزاوج واشنطن بين تقديم دعم دبلوماسي محدود و مساعدات إنسانية مشروطة وبرامج تقنية وأمنية محافظة أكثر من استثمار في بناء دولة مركزية قوية، وهنا تكون الشرعية مفيدة كواجهة تفاوضية تستخدمها واشنطن لإضفاء شرعية على أي تسوية دولية دون منحها قدرة مركزية تجرها إلى مواقف مستقلة.
أما تعاملها مع حزب الإصلاح والقوى الإسلامية السياسية فيندرج ضمن توازن حذر بين الشراكة والمخاطر وتعترف بكون حزب الإصلاح فاعلا سياسيا لا يمكن تجاهله لكنه يدار بحذر لأن تحالفاته الداخلية وخلفيته الإخوانية تثير حساسية لدى شركاء الخليج وخصوصا الإمارات،
ومن ثم تفضل العمل على حشد قنوات دبلوماسية وسياسات احتوائية لتقليل دور الإصلاح العسكري، وفي الوقت نفسه تعمل استيعابه سياسيا داخل هياكل توافقية لقطع الطريق أمام سياسات أكثر تطرفا أو تآمرا إقليميا، وهي أيضا تحتاجه واشنطن لتحيق التوازن السياسي الداخلي وخصوصا مع الحوثيين لأن حزب الإصلاح أكثر ميلا للدخول في حروب مستمرة مع الحوثيين انطلاقا من أيدولوجياتهم العقدية، لكنهم يسعون لإضفاء شرعية جهادية تحت مظلة الشرعية، ولهذا تسعى إلى تجريده من القدرة العسكرية المستقلة عبر دعم بدائل محلية وإقليمية ودمجه ضمن مكون سياسي أكثر توازنا فكريا وعقليا.
كما ترى من القبائل فاعلا عمليا وحاسما في ضبط المناطق الريفية حيث تميل إلى سياسة دعم نقاط نفوذ قبلية واستخلاص رؤوس قبائلية كقنوات محلية للأمن والمعلومات.
كما تعمل على تمويل مشاريع صغيرة ضمن استراتيجية دعم استخباراتي محلي ووساطات قبلية لإشراكها في محاربة التنظيمات المتطرفة وتأمين خطوط الملاحة، فالقبائل تستخدم في الاستراتيجية الأمريكية كبديل وظيفي عن مؤسسات الدولة الغائبة ومن ثم فإن القبائل يشكلون جزءا لا يتجزأ من استراتيجية التحكم الأمريكي المرن بالدولة اليمنية وهذا ما أكده الملحق السياسي الأمريكي والذي تمكن خلال فترة الرئيس علي صالح من اختراق المكون القبلي وبناء علاقات صداقة خارج مؤسسات الدولة وبالمثل تمكن السفير الأمريكي من تشكيل هذه العلاقات .
وتركز الولايات المتحدة بشكل أساسي على مكافحة تنظيمات القاعدة، والفيدراليات على رأس أولوياتها الأمنية في اليمن لأن هذه التنظيمات تشكل تهديدا مباشرا للمصالح الأمريكية والإقليمية ومن ثم كان نموذج الفيدراليات المطروحة من قبل الرئيس عبد ربه هي فكرة أمريكية مبنية على مصالح الولايات المتحدة وليس على من أجل تأسيس الدولة المدنية، وعندما ننظر إلى هذا التشكيل نجده لا يتوافق منطقيا ولا استراتيجيا مع مفهوم الدولة الوطنية.
إن تحقيق الفيدرالية المطروحة سيمكنها من القيام بضربات جوية دقيقة ودعم استخباراتي محلي مع تدريب وتمويل عمليات محدودة عبر الشركاء المحليين ويتربع في الاستراتيجية مكافحة الإرهاب الذي يعد الشرط الثابت ضمن أي سياسة أمريكية حتى لو تغيرت لهجة واشنطن السياسية تظل العمليات الأمنية الاستخباراتية مستمرة.
ولتوظيف هذه الرؤية الأمريكية توظف واشنطن مزيجا من الضغوط والحوافز كالتالي:
1- ضغوط عسكرية محدودة لردع التهديدات المباشرة مثل هجمات على الملاحة.
2- دبلوماسية وساطة عبر عمان والأمم المتحدة لتوقيع هدنة أو تبادل تنازلات.
3- حوافز اقتصادية ومساعدات مشروطة تستخدم لتقوية عناصر موالية أو لتحفيز سلوك تفاوضي.
4- تعقب خارجي للنفوذ الإقليمي و مراقبة للتداخل الإماراتي–السعودي وتقييد المسارات التي قد تمنح شركاء إقليميين استقلالية مضرة للمصالح الأمريكية.
إن واشنطن لا تبحث عن تحرير اليمن بصيغة واحدة وإنما تسعى إلى توازن المكونات ضمن رؤيتها مما يجعل من كل طرف قادر على أداء وظيفة محددة، فالحوثي كطرف يمكن التفاوض معه لتخفيف التهديد البحري بينما يظل مصدر قلق جيوسياسي وعقائدي للسعودية، و المجلس الانتقالي ضابط مرور للساحل الجنوبي لضمان استمرار التعامل معه وتقييده ضمن هذه الفوضوية الجغرافية واستعماله في نطاقات محدودة، و الشرعية تستخدم كغطاء تفاوضي لضمان بقاء التدخل الأمريكي والإقليمي مستمرا عبر المسيرات والاستخبارات العسكرية، والإصلاح والقبائل تستخدم كشبكات داخلية للاستقرار الجزئي تحت اطار الشرعية، وهذه المقاربة تدمج القوة والمرونة مع قبول واقع مشتت يضعف الدولة ويزيد من التباين الثقافي والجغرافي والاستراتيجي ويؤسس لواقع لا مركزي كما تستخدم واشنطن المزيج الدبلوماسي، العسكري–الاقتصادي لإبقاء اليمن داخل نطاق الاستقرار الذي تسيطر عليه واشنطن وشركاؤها الإقليميون، وفي المقابل تبقى اليمن كورقة ضغط وظيفي تهدد دول الخليج لضمان بقاء هذه الدول تحت مظلة الحماية الأمريكية والتبعية الاقتصادية بشكل خاص.
وأخيرا فإن اليمن غير مهيئة وفقا للرؤية الأمريكي للاستقلال والسيادة ما لم تتشكل قيادة عقلانية متوزانة إما أن تكون مع أمريكا أو تلتزم الحياد الدولي في إطار علاقات متوازنة كأقل التكاليف الممكنة، وهذه القيادة لا بد لها من قاعدة شعبية بحيث تكون قادرة على إدارة التوازنات المحلية وهذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم في حديثنا عن القائد اليمني النموذج الذي يمكنه إدارة الأزمة اليمنية محليا وإقليميا ودوليا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف





